ما إن وقع انفجار بيروت الرهيب، وفيما كانت النيران تلتهم الحجر والبشر، وبينما كان الناس يعيشون هول الصدمة الأولى، ويغرقون في فزع لحظة الكارثة، لم تتردد وسائل الإعلام الخليجية من محاولة استغلال ما حدث للاستثمار السياسي في الهجوم على حزب الله، من خلال تحميله المسئولية عن كارثة بيروت وإثارة الفتنة ضد المقاومة، بطرقٍ مُضللة ووسائل خبيثة، عبر نشر موجات من الأخبار المزيفة زعمت أنها نقلاً عن مصادر لبنانية أو إسرائيلية أو أمريكية، تركّزت حول ربط الانفجار بحزب الله، سواء بالزعم بأنَّ المواد المتفجرة تابعة للحزب، أو أنها ضُربت بصاروخ إسرائيلي استهدف حاوية للحزب كما يدعي الإعلام الخليجي، أو ربط الانفجار بعمليات (الجريمة المنظمة) داخل الميناء الذي يسيطر عليه الحزب كما يدعي الإعلام الخليجي... وهذا يُذكّرنا باستغلال هذه الوسائل الإعلامية والمواقع الإلكترونية لبعض الأحداث الأمنية في قطاع غزة لشن هجوم شرس على المقاومة الفلسطينية، وهي الحملة المستمرة والمتصاعدة منذ ثلاث سنوات بعدما توّلى محمد بن سلمان دفة الحكم الفعلي في السعودية، مما يقتضي البحث في أسباب عداء هذه الأنظمة للمقاومة في كل من لبنان وفلسطين.
الهجوم الخليجي على المقاومة لا يأتي في إطار النقد المشروع للمقاومة كممارسة بشرية مُعرّضة للصواب والخطأ، فالمقاومة ليست صك غفران تُعفي أصحابها من النقد والتقييم، ولا تُضفي على أهلها عصمة تمنع محاسبتهم وتصحيح مسارهم، ولا تعطيهم الحق في انتهاك حرية الناس وحقوقهم. ولكنه يأتي في إطار تقويض أساس مبدأ المقاومة، وهدم جوهر فكرتها في رفض الاستسلام والإصرار على انتزاع الحقوق. وهذا ما يُفسّر سرعة استغلال كارثة انفجار بيروت، للهجوم الإعلامي على حزب الله قبل أن تتضح الحقائق، وهو نابع من طبيعة هذه الأنظمة وجوهر بُنيتها العائلية المُتخلّفة المُرتبطة وظيفياً بالمشروع الغربي الاستعماري المُعادي للأمة ومصالحها، والمُرتبطة بالوجه الآخر للمشروع الغربي في المنطقة وهو الكيان الصهيوني، من حيث أنَّ كليهما إفراز للمشروع الغربي الاستعماري، فعداؤها للمقاومة والتحريض عليها منسجم مع طبيعتها وبنيتها المُعتمدة على الغرب ممثلاً في بريطانيا سابقاً وأمريكا حالياً في وجودها وضمان بقائها في الحكم، ولذلك فهي تتبنى الرواية الإسرائيلية التي تشيطن المقاومة كمدخل لإرضاء السيد الأمريكي ومن قبله أو بعده الكيان الصهيوني، متوّهمة أنَّ ذلك فيه ضمان وجودها واستمرار مصالحها، وليس الاعتماد على شعوبها في تثبيت شرعيتها واستمداد قوتها.
الهجوم على المقاومة وشيطنتها وتحميلها مسئولية مآسي الشعبين اللبناني والفلسطيني عبر الأبواق الإعلامية بمختلف الطرق والوسائل التابعة لبعض الأنظمة الخليجية، له سبب آخر إضافة إلى طبيعة تلك الأنظمة، وهو إعطاء الأُسر الحاكمة ونخبها التسلطية مُبرراً سياسياً وأخلاقياً أمام أنفسهم وشعوبهم لمعاداة المقاومة والتطبيع ثم التحالف مع العدو، ويُمهّد الطريق أمامهم للانتقال من صف الأمة العربية والإسلامية، إلى الصف المُعادي لها مع التحالف الصهيوأمريكي، فصورة المقاومة بنهجها وقيادتها ومجاهديها (الشريرة)، بالرواية الخليجية والتي (تعمل لأجندات خارجية) ونفي الصفة الوطنية والقومية والإسلامية عنها، تخدم الأنظمة في مصداقية عدائها للمقاومة، وفي رغبتها في التأثير على جمهورها، وتشكيل الرأي العام وفقاً لما يخدم أهدافها، وتخلّص النخبة الحاكمة من الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير في التخلّي عن مناصرة القضية الفلسطينية والحق اللبناني، والذهاب نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهذا ما اشتركت به الدراما الخليجية مؤخراً عندما أنتجت مُسلسلات تتضمن إعادة تعريف العدو باتجاه الفلسطينيين، وتحويل التطبيع إلى قضية عادية مشروعة للدول العربية.
الهجوم على المقاومة من بعض أنظمة الخليج يأتي في إطار الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران، فعدم دعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية من قبل الدول العربية ترك المجال لإيران لتكون الدولة الوحيدة تقريباً الداعمة للمقاومة بالموقف السياسي والدعم المالي وبالسلاح والخبرة، وهو ما ينسجم مع مبادئ إيران الثورة والدولة، التي استطاعت عن طريق هذا الدعم تكوين محور المقاومة ضد الهيمنة الصهيوأمريكية في المشرق العربي، مقابل ما يُسمى بمحور الاعتدال العربي الذي تقوده السعودية والذي في طبيعته جزء من النفوذ الأمريكي في المنطقة، ويتقاطع مع الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وهو المحور الذي وظّف البُعد المذهبي بين السنة والشيعة في الصراع الإقليمي بين إيران والسعودية، فوسم المقاومة بالبُعد المذهبي والطائفي بغرض تشويهها أمام العرب والمسلمين، لتحريض السُنّة على المقاومة (الشيعية) من الزاوية المذهبية، وتحريض العرب على المقاومة (الفارسية) من الزاوية القومية. واستخدم نفس الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن سبب معاناة اللبنانيين والفلسطينيين هي المقاومة وصراعها مع الكيان الصهيوني، وليس الكيان الصهيوني وعدوانه المستمر عليهما.
انفجار بيروت كارثة رهيبة ناتجة عن عمل إجرامي سواء أكان بسبب الإهمال الحكومي، أو الهجوم العدواني، وفي كل الأحوال ترك هذه الكمية الضخمة من المتفجرات الخطرة في مرفأ بيروت وسط السكان جريمة لا تُغتفر، تتطلب مُحاسبة المسئولين مهما كانت أوزانهم السياسية، ومناصبهم الإدارية، وطوائفهم المذهبية. وإذا كانت الكارثة الرهيبة قد وقعت بالفعل، ولم يبق أمام اللبنانيين سوى دفن ضحاياهم، وتضميد جرحاهم، وتسكين آلامهم، وتجاوز محنتهم، وإعادة بناء خراب الانفجار... فإنَّ الفتنة الأكثر خطورة من الكارثة لم تقع بعد، وبالإمكان تجاوزها، الفتنة المُرادة لهم إسرائيلياً وأمريكياً وخليجياً التي تبدأ بتحميل المقاومة مسئولية الكارثة تمهيداً لتجديد اسطوانة المُطالبة بنزع سلاح المقاومة، ولن تنتهي إلاّ بتدمير لبنان كله وليس مرفأ بيروت فقط، وبذلك يتحقق الهدف الأكبر للكيان الصهيوني الذي لن يمنع تحققه إلاّ وعي اللبنانيين بقدرتهم على استعادة ثقتهم بأنفسهم ومقاومتهم وقدرتهم على تجاوز الكارثة وتخطي المحنة بعيداً عن أصوات الفتنة التي تخدعهم بوهم الخلاص بعد تخلّصهم من المقاومة، ووهم الازدهار عبر بوابة الاستسلام، وكذبة الحصول على الدعم الأمريكي والأوروبي والخليجي عبر البوابة الإسرائيلية. وتحويل المحنة إلى منحة بتوحدهم وانتصارهم على كل المؤامرات التي تستهدف لبنان الشعب والمقاومة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية