يعيش المقدسيون حالة مركّبة من المعاناة والهواجس في المرحلة الراهنة تتصدّر فيها عناوين الانتهاكات المتصاعدة سواء من جانب سلطات الاحتلال أو الجماعات اليهودية المتطرفة، إلى جانب تخييم شبح الضم للأراضي المقام عليها المستوطنات، إضافة لتزايد تفشي وباء كورونا والارتفاع المهول لأعداد الإصابات بين الأهالي.

خطورة أشكال المعاناة تلك تخلق توجسات تتعلق بما ينتظر المدينة وأهلها من تحديات مصيرية تتعلق بوجودهم، وشكل وكيان المدينة، سيما في ظل تسارع المخططات الصهيونية بفرض السيطرة السياسية إلى جانب الإدارية، ومسابقة الزمن من أجل استكمال آخر فصول الهيمنة عبر خطة ضم الأراضي التي تشمل 30% من أراضي الضفة الغربية والأغوار.

بطبيعة الحال تخضع القدس الشرقية للسيطرة الإسرائيلية، إلا أن تنفيذ مخطط الضم يكرس هيمنة الاحتلال، بعدما كانت أولى حلقاته الإصرار على تأجيل التفاوض حول مستقبل المدينة المقدسة، ووضعها على بند القضايا التي سيجري بحثها في مرحلة "الوضع النهائي" في اتفاق أوسلو، ما أتاح لدولة الاحتلال فرض إجراءات ووقائع جديدة على الأرض انتهت بالحدث المفصلي بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتويج المدينة بشقيها الشرقي والغربي كعاصمة للدولة العبرية قبل أكثر من عام.

وتزداد المخاوف لدى المقدسيين من إطلاق الاحتلال يده في عملية التغيير الديمغرافي بعد إقرار خطة الضم، والسير في عملية التهويد والاقتلاع لأبناء المدينة بوتيرة أسرع، واصطباغ إجراءاته بصبغة "المشروعية" بعد أن تكون قد تكرست بالقرارات الأمريكية التي جاءت في سياق ما بات يعرف بـ" صفقة القرن ".

ويستشعر المقدسيون بعد إتمام عملية الضم لأراضي الضفة والأغوار إحداث تغييرات في وضع مدينة القدس بوتيرة عالية، تبدأ بمنح دولة الاحتلال طابع الشرعية لجميع القرارات التي صدرت بحق المدينة وسكانها العرب منذ العام 1967، علاوة عن اتخاذ سياسات جديدة توغل في تمزيق أوصال المجتمع المقدسي وتشتيت شمله، وترسيخ واقع استيطاني يهودي بمساحة أكبر، من شأنه أن يلغي الهوية العربية والإسلامية في المدينة المقدسة بشكل تام.

نوايا التغيير الشامل "المبيّتة" لوضع القدس تبدو جليةً في واقع حال أهالي القدس الشرقية، الذين تركتهم سلطات الاحتلال "معلّقين" في وضعية المقيم وليس المواطن، فضلاً عن تعامله الجائر مع حقهم في ملكية عقاراتهم، حيث تسهل مع هذه الوضعية طرد الأسر من منازلها بدعاوى مختلفة، إما لعدم الترخيص للبناء، وعدم دفع الضرائب الباهظة، كما أن مصادرة المنازل والأراضي لا تحتاج لعبء قانوني كبير، سيما وأن أهون حجج المصادرة غياب المالك لفترة عن أرضه أو منزله.

وتتضح أهداف الاحتلال من وراء إجراءاته وممارساته وانتهاكاته تلك بحق المقدسيين في الوصول لأحياء ومناطق ذات أقلية عربية في المدينة المقدسة، حيث تستوجب عملية الضم ضمن ما تحمله من مضامين نتيجة أساسية تتمثل في فكرة "أرض أكبر وسكان أقل"، وقد كانت وما تزال أحياء القدس الشرقية المكتظة بالفلسطينيين مشكلة الاحتلال الجوهرية.

دولة الاحتلال استبقت مرحلة "الضم"، والتي يصفها قادتها بالمرحلة التاريخية، بسياسات وإجراءات نفذتها على الأرض على مدى سنوات طويلة تهدف لتغيير معالم المدينة المقدسة، بينما يشهد على هذه الإجراءات جدار الفصل العنصري الذي يقطع أوصال الأرض الفلسطينية، ومنها القدس، حيث عمد الجدار على فصل المستوطنات عن التجمعات الفلسطينية من جهة، والقدس الشرقية عن الضفة الغربية والمناطق الفلسطينية من جهة أخرى، وقد هدفت هذه العملية من ضمن ما هدفت إليه، إحداث التغيير في المكوّن السكاني لصالح اليهود المستوطنين دون الفلسطينيين.

استراتيجية الاحتلال بالنسبة للسكان الفلسطينيين في المرحلة المقبلة عبّرت عنها أصوات قادة إسرائيليين يدعون لعزل مناطق وأحياء الفلسطينيين في القدس الشرقية شرق الجدار العازل عن البلدة، ثم العمل على تحويلها إلى مجالس إقليمية منفصلة تخضع للسيطرة الإسرائيلية، بهدف الحفاظ على أغلبية يهودية من السكان، ما من شأنه أن يمثل نموذجا لجوهر عملية الضم برمتها، والتي تتمثل في ابتلاع أجزاء كبيرة من أراضي الضفة، ونقل السكان الفلسطينيين الذين سيحملون الإقامة وليس الجنسية إلى وحدات إدارية إسرائيلية منفصلة.

ويظهر "السعار" الإسرائيلي في لمساته الأخيرة لتهيئة المرحلة النهائية التي تسبق إعلان الضم من خلال "تنفيذ خطط عدة لتقطيع أوصال الأحياء الفلسطينية في القدس المحتلة، ومنع التواصل الجغرافي بينها، في حين يواصل شق الطرق وتحريك الحواجز القائمة بين المستوطنات، لضمان منحها تواصلا جغرافيا يُحكم الطوق حول القدس من كل الجهات"، بحسب الخبير في الشؤون المقدسية فخري أبو دياب، الذي وصف إجراءات الاحتلال بعملية "ضم صامتة" في القدس المحتلة.

إنشاء بنى تحتية خاصة يعمل عليها الاحتلال في الوقت الحالي، ومنها مشروع خط القطار القادم من الساحل حتى مستوطنة معاليه أدوميم، إضافة لتعبيد ما يسمى بالشارع الأمريكي، لتسهيل تواصل المستوطنات بعضها مع بعض، بينما يقابل ذلك عمليات هدم ممنهجة لمنازل الفلسطينيين، يعد ملمحاً لصورة يكتمل معها المشهد الحالي الذي سيكون من نواتجه إخراج المقدسيين من المعادلة، بعد أن يجدوا أنفسهم سكاناً معزولون في مناطق لا يتمتعون فيها بأي صفة قانونية، لا "مواطنين"، وربما لا يمتلكون حتى حقوق "المقيمين".

المدينة المقدسة بما تختزله من معاناة جراء التطبيق الفعلي لنظام "الأبارتايد" العنصري منذ سنوات، والذي يعمل على تمزيق روابط المجتمع العربي المقدسي، ويفرض أوضاعاً اجتماعية واقتصادية بالغة الصعوبة على المقدسيين، باتت اليوم تتصدر مشهد الضم كرمزية لاستفراد الاحتلال بالشعب الفلسطيني، وفرضه معطيات جديدة على الأرض على مدى سنوات، لتأتي الظروف التي هيأت ضمن معادلة إقليمية ودولية سانحة للقيام بعملية الانقضاض الأخيرة على حقوق الفلسطينيين في أرضهم ومواردهم ومقدساتهم.

أمام هذه الحقيقة المرّة التي ترافقها حالة تتالي الصدمات على أبناء القدس، فالتفشي السريع لوباء كورونا بين أهالي المدينة يستغله الاحتلال في تصعيد انتهاكاته ضد المقدسيين، من تكثيف لعمليات الاعتقال والإبعاد عن القدس والمسجد الأقصى، ومن بينهم العديد من المسؤولين، وعرقلة تقديم المساعدات الطبية للوقاية من الجائحة، وزيادة وتيرة هدم المنازل، لا يجد المقدسيون سوى أن يقفوا وحيدين في مواجهة الوباء والتصدي لانتهاكات الاحتلال، يوازي ذلك أمل في تغير التوازنات السياسية لصالح أصحاب الحق، وفي نصرة من جانب الأشقاء والأصدقاء، وكل من يملك ضميراً حياً، فالقدس والمقدسات بما فيها المسجد الأقصى المستهدف بشكل مباشر، باتت عناوين لقضايا إنسانية وتحررية، ليس على المنطق العقلي، ولا الفطرة النقية، ولا حتى على المبادئ الأولى لشرعة القانون أن تقبل فيها أنصاف الحلول.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد