يكثر في هذه الأيام ذكر سويسرا، والحديث عن مبادرتها المسماة بخارطة الطريق، للخروج من حالة المراوحة في المكان، حيث يبدو أن كل شيء تعاقدنا عليه كفلسطينيين غير قابل للتصديق أو التطبيق، فلا حكومة أنجزت ما كُلفت به، ولا تبدو أنها معنية بذلك، ولا إعمار موعود ظهرت له معالم وآثار في غزة المدمرة، والحصار ما زال ضارباً أطنابه في كل أنحاء القطاع، والناس تسأل هل إلى خروج من سبيل؟
إن خارطة الطريق السويسرية (Roadmap) تبدو لجمهور الشارع الفلسطيني – اليوم - أنها طوق النجاة الوحيد المتاح لاستنقاذ الحالة الفلسطينية من الغرق. لذا، فالكل يسأل هل تمَّ التراضي والاتفاق بين جميع مكونات الحالة السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أم ما تزال هناك عقبات وتحفظات لهذا الفريق أو ذاك؟
إن هذا السؤال المشروع هو في الحقيقة "مربط الفرس" وبيت القصيد في كل نقاشاتنا السياسية، حيث تظهر دائماً اعتراضات أو تمنعات هنا أو هناك، فالكل يظن أن السياسة هي طريق الوصول إلى تحقيق الغايات، وما تتطلع له الفصائل والأحزاب من مكاسب وامتيازات، وليس الاتفاق في الوصول إلى أرضية مشتركة، حيث يقدم كل طرف من خلالها بعضاً من التنازلات، بهدف بلوغ نقطة اللقاء والارتقاء وتعانق الخطوات.
إن ما يحاول السويسريون – مشكورين - الوصول إليه من خلال خارطة الطرق هو هذه النقطة من التوافق واللقاء، والتي هي – ربما - خارج توقعات الجميع، ولكنها تخرجهم جميعاً من حالة التخبط والمراوحة في المكان (still stand)، وتسهم في لحلحة الأمور إيجابياً، والابتعاد عن مربع الأزمة الخانق إلى مساحات جديدة يستطيع فيها كل طرف بناء لبنة من الثقة بالآخر.
إن خارطة الطريق السويسرية هي محاولة من طرف مشهود له بصدقية مواقفه، ونزاهة سياساته تجاه الحالة الفلسطينية، وبالحيادية الايجابية التي هي علامة عالمية مميزة لهذا البلد العريق بمواقفه وواقعية مبادراته السياسية، ودرجة الجدارة في الإنجاز.
اليوم، هناك من يحاول تفريغ المبادرة من محتواها، والدخول في تفاصيل ليست في وارد من وضعوها، وهي في الحقيقة لم تخرج عن اجتهادات طرف محايد ونزيه، حاول التشاور مع الجميع، واستكمل ملامح الرؤية للخروج من نفق الأزمة الطويل، ليأخذ بأيدينا جميعاً إلى بر الأمان، وذلك عبر إيجاد حلِّ عملي لمشكلة الموظفين العالقين لأسباب مختلفة، وإن كان ظاهرها فنياً وإدارياً، ولكن العارفين ببواطن الأمور يدركون أنها سياسية بامتياز.
في اللقاء الأخير، والذي تمَّ مع قيادة الحركة ومع فصائل العمل الوطني والإسلامي، جرت هناك أحاديث مستفيضة ومداولات مطولة كنت شاهداً على بعضٍ منها، استدعت أن يبقى باب الأمل مفتوحاً، بهدف البحث عن مخارج وحلول للنقاط العالقة، والتي كانت هناك ملاحظات جوهرية، ونقاط لحركة حماس تحفُّظ عليها، والخاصة بالسلامة الأمنية.
إن الورقة من حيث ما تضمنته من مبادئ وأفكار وأسس توزعت بين نصوصها وفي سياق ديباجتها هي محل إجماع الكل الوطني والإسلامي، ولا اعتراض من أي جهة عليها، وحتى البند المتعلق بموضوع "التشييك الأمني" فمن السهولة تجاوزه من خلال تسريح البعض على قوائم المتقاعدين، دون التوقف أمام دواعي وأبعاد هذه المغادرة الطوعية للسلك الوظيفي.
لا شك أن الكثير من المماحكات والاعتراضات على المبادرة السويسرية لم تأت من أطراف دولية، ولكن – للأسف – جاءت من جهات محلية لتعقيد مخارج الرؤية والحل، وإبقاء الجرح الفلسطيني نازفاً - بدون تضميد - حتى تقع الكارثة، وتنكسر شوكة الجهاد والمقاومة، وتنحني غزة ظهر البطولات والعزة، ويفرغ القطاع من معاني الصمود والنخوة.. نقول: نعم هناك تحفظات، ولكن أيضاً هناك تصورات لتجاوز الأزمة إذا ما توفرت الإرادة السياسية، فالقضية ليست بمنطق أن تقبل هذا الكل - كما هو - أو تتخلى عنه.. لا؛ هناك مجالٌ للمراجعات وإمكانيات التوافق، حتى نتجاوز عنق الزجاجة، ونصل إلى فضاء الرحمة والتغافر، لاستنقاذ شعبنا، والأخذ بيديه بعيداً عن الفاقة ومهاوي الردى.
نحن في غزة نرحب بكل من يمد لنا يد العون والمساعدة، وعلى استعداد للتعاطي مع كل من يجلب الخير لساحتنا، ويأتي بمقترحات للتخفيف عن معاناتنا، حيث إن الأزمات المستشرية أخذت بتلابيب كرامتنا، وجعلت "الكابونة" عنواناً لأحاديثنا الوطنية، وتقدم منسوب اهتمامنا بذكرها والسؤال عنها على كل جوانب حياتنا، حتى المقدسات والمصالح الوطنية العليا تقزَّمت في مساحات التنافس للحصول عليها.
إن من المحزن القول، إننا كلما اقتربنا لتفكيك أزمة من الأزمات تعالت الاتهامات بأن غزة تفكر في الانفصال والدولة، وكلما جاء من أبناء أمتنا من يحاول التفكير معنا أخذه البعض بألسنة حداد، فلا يبقوا له ستراً، وانهالوا عليه باتهامات الخيانة والتآمر.!!
وآسفاه؛ لا أحد منهم تتحرك فيه النخوة أو تشده المروءة، فيما غزة العزة تئن وتتوجع، وتتعرض للموت البطيء وبمنهجية مدبرة، بل إن بعضهم يريد خرابها؛ لأنها صبرت وتعالت على الجراح، وأحرجت كل من تواطؤ عليها أو راهن على أنها سوف تأتيهم صاغرة.. انتظروا إسرائيل واسطورة جيشها أن تحقق لهم عودة ظافرة، إلا أن هزيمة المحتل الغاصب خذلتهم، وكانت عاقبة أمره خسرى، والآن يريدون من زعماء العرب أن يأتوا لهم بغزة برأسها مطأطأة.!!
واحسرتاه على تلك النداءات البائسة، والتحريض الممجوج، والتشويه الذي لا يليق بقطاعنا الحبيب، الذي أعاد للأمة جزءاً من كبريائها السليب.
لقد تنازلت حركة حماس عن الحكومة، وهيئت لكم الأجواء لكي يستعيد الوطن وحدته، وتصفوا سماؤه من الكدر، ويلتئم شمل الجميع، ونقطع الطريق أمام مؤامرات الاحتلال لتأبيد الانقسام، تعالوا ابسطوا أيديكم على سهولها وشواطئها وبيوتها المهدمة، وافتحوا أبواب رحماتكم لتتنزل عليها، ومدوا أيديكم للمستغيثين من أهلها..
لا نريدكم إلا أهلاً لنا؛ أبناء جلدتنا، نبني معاً هذا الوطن حجراً فوق حجر، ونغرسه زيتوناً وجنات غنَّاء من نخيل وأعناب، تليق بقداسة هذه الأرض التي جعلها الله مباركة للعالمين.. نريد أن نتجاوز حالة "نزغ الشيطان" بيني وبين إخوتي، وأن نزرع المحبة والفخر بأن "هذا أخي"، وأن العدو الإسرائيلي هناك في الجوار يتربص بنا وبمقدساتنا الدوائر، فاعتبروا يا أولي الألباب.
إن أية مواقف أو حلول يمكن أن تنبي على ما أوردته المبادرة السويسرية من نقاط اتفاق وتوافق اختصاراً للوقت، وأن اللجنة التي شكلتها الحكومة بإمكانها اعتماد هذه المبادرة كأحد مرجعياتها التي حظيت بتفاهمات حول العديد من جوانبها، مما يجعل اللجنة الحكومية قادرة في فترة وجيزة - قد لا تتجاوز الشهر - التوصل للاتفاق الذي ينهي كل الخلافات القائمة بيننا.
الموقف السويسري: محطة سياسية وإنسانية جديرة بالتقدير والاحترام
خلال زيارة الرئيس (أبو مازن) للعاصمة السويسرية بيرن، ولقائه في التاسع من مارس 2015م الرئيسة سيمونيتا سوماروغا، حيث أكدت في مؤتمر صحفي مشترك استمرار جهود بلادها في استعادة الوحدة الفلسطينية بين السلطة الوطنية وحركة حماس من خلال ما تعرف بـ(خارطة الطريق) لتعزيز التكامل بين السلطة في الضفة الغربية والإدارة المدنية في قطاع غزة.
وقالت سوماروغا: إن "بلادها تدعو إلى المصالحة الفلسطينية ، والهدف يجب أن يتمثل في أن تكون حكومة الوفاق الوطني مستعدة وقادرة على ممارسة سلطتها في غزة بفعالية وهذا شرط أساسي في إعادة إعمار غزة."
وأضافت بأنه يمكن لـ(خارطة الطريق لحل مشكلة الموظفين في غزة) أن تمهد لذلك، وهي الخارطة التي تمَّ وضعها بناء على تفويض لرئيس الوزراء الفلسطيني بعد المشاورات في رام الله وغزة"، مبينة أن هدف هذه الخارطة هو دمج الإدارة المدنية في غزة ودعمها مع إعطاء الأولوية في ذلك لقطاعي التعليم والصحة.
وقالت سوماروغا إن "من أركان سياستنا الخارجية توفير التدابير الداعمة للسلام والتعاون التربوي والمساعدات الإنسانية."
وأشارت إلى أن تحقيق السلام الدائم يرتكز – أيضاً - على مسائل حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، فهي كلها أشياء جوهرية، وهذه المجالات التي تبذل سويسرا فيها تقليدياً مساعي حثيثة.
لم تكن هذه المبادرة هي الأولى التي تقدمت بها سويسرا من أجل التخفيف عن معاناة الفلسطينيين والبحث عن حل لقضيتهم، فقد سبق أن عرضت مقترحاً لإنهاء الاحتلال في عام 2006م، إلا أن إسرائيل عارضت ذلك ورفضت الطرح السويسري، الذي لقي اهتماماً عالمياً وقبولاً دولياً.
كما أن سويسرا قامت بالتصويت في الأمم المتحدة لصالح منح فلسطين صفة دولة مراقبة في المنظمة الدولية، كما أنها بذلت جهوداً مشكورة لعقد مؤتمر الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة في ديسمبر 2014م بمدينة جنيف، وذلك بحكم مسؤوليتها كدولة مودعة لهذه الاتفاقية.
وشهادة للتاريخ، أن سويسرا قادت حملة دبلوماسية نشطة بعد الانتخابات الفلسطينية في يناير 2006م، بهدف تسويق الديمقراطية الفلسطينية والتمكين لحركة حماس التي فازت بالأغلبية فيها من القبول والانفتاح على المجتمع الدولي، كما أنها قد فتحت أبوابها للكثير من اللقاءات التي تمت بين بعض قيادات الحركة ووزرائها وشخصيات اعتبارية غربية رسمية وغير رسمية، بهدف خدمة السلم والأمن العالميين.
إضافة لكل ما سبق، فإن سويسرا لم تبخل عن تقديم الدعم المالي للسلطة، وأيضا لتغطية الكثير من الجهود الإغاثية والمساعدات الإنسانية التي أعقبت العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة.
إننا نسجل اعتزازنا بهده الدولة التي شرفت العالم بحيادها الإيجابي، ونجد ارتياحاً في التعامل معها، والاطمئنان لجهودها الخيّرة التي لا تنقطع.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية