ضريبة 'الكورنيش' شريكٌ جديدٌ في رزق الثلاثيني 'حمد'
بعيونٍ مرهقة، ومن خلف شباك كشكه الصغير، يراقب يوسف حمد تفاصيل حركة الناس، وأحاديثهم المُفتّتة على مقربةٍ من شاطئ بحر غزة ، يتأمل ملامح القهر في وجوه الشباب الذين لا يجدون متسعًا للحديث عن أحلامهم التي قتلها الحصار إلا هنا، ويتمتم بغصة: "كله على الله".
يتساءل الرجل الثلاثيني عن الحال الذي سيصير إليه وعائلته، فيما لو لم يتمكن من بيع كميةٍ مضاعفةٍ من المشروبات والمسلّيات؟ كيف سيلبي احتياجاتهم بالإضافة إلى ما سيقتطعه من رزق "الكشك" للإيجار السنوي الذي فرضته البلدية على بائعي "الكورنيش" مع بداية موسم الصيف الجديد.
مشاهدٌ كثيرةٌ تمر أمام عيني الرجل الثلاثيني، الذي يبدأ عمله يوميًا تمام الثالثة ظهرًا، ويستمر حتى قريب الفجر، كلها عبارة عن مفرزاتٍ خلفها حصار 14 عامًا لقطاع غزة، وانقسام داخلي أتى على ما تبقى من أمل. شبابٌ في عمر الورد تخنقهم قلة فرص العمل، وخريجو تخصصات مختلفة، يعملون في بيع الترمس والذرة هنا، على صعيده الشخصي، هو لا يتمنى إلا توفير حياةٍ أفضل لأبنائه، أفضل –ولو بقليل- من تلك الحياة التي عاشها هو.
كل يوم، كان يوسف يدفع عربته المحملة ببعض المسليات البسيطة، وأكواب المشروبات الساخنة، وينطلق بها من حيث يسكن في حي الزيتون شرق مدينة غزة، باتجاه الغرب حيث البحر الذي صار جزءًا من حياته، ومصدرًا لسعادته في كثيرٍ من الأحيان، رغم أن ما كان يحصله من يوم عملٍ كامل لا يتعدى (40 شيكلا) في معظم الأحيان، لم يكن يشكو التعب حينذاك، لكنه اليوم يشكو التعب أضعافًا لفرط تفكيره في ما سيؤول إليه حاله إذا لم يتمكن من دفع إيجار الكشك الجديد.
مع بداية موسم الصيف، فوجئ حمد كما غيره من الباعة المنتشرين على طول "الكورنيش" من قرار بلدية غزة، القاضي بتحويله لمساحةٍ تجارية للإيجار، يستفيد منها التجار والباعة من خلال دفع مبالغ مالية، تصل لـ (2500) دولارًا للكشك الواحد الذي لا تتجاوز مساحته 9 أمتار، كل عام.
يقول: "الخبر صعقني، أنا بالكاد أستطيع تحصيل ما يسد رمق أطفالي من مردود بسطتي اليومية خلال الموسم، كيف سيمكنني توفير ذلك المبلغ الذي لو كنتُ أمتلكه لما ذهبت للبيع على الشاطئ".
خلال حديثه لـ "سوا" يضرب حمد كفًا بكف، وينادي بصوتٍ مرتفع: "كوز الذرة حيصير بخمسة شيكل مشان خاطر البلدية"، ثم يعود ليكمل: "بصراحة الخبر قلب أولوياتي بالكامل، فلم أعد أعرف: هل يفترض أن أجمع المال لدفع إيجار البيت الذي أعيش فيه برفقة عائلتي؟ أم لجمع إيجار كشك البلدية؟ أم لتوفير الطعام والملابس لأبنائي الصغار؟"، مشيرًا إلى أنّه جمع بعد جهودٍ مضنية ألف دولارٍ من المبلغ المطلوب، وطلب من البلدية تقسيط المتبقي منه، مقابل توقيعه على سندات، "سيدخل السجن في حال عدم تسديدها".
يروي حمد الذي ربض الحزن على ملامحه حكايته مع الصبر في غزة فيقول: "كان حلمي أن أهرب من واقع البطالة المرير، فقررت أن أعتمد على نفسي بهذه البسطة بدلًا من ذل السؤال، لكن الآن صار لي في رزقي شريك آخر، لقد أرهقتنا البلدية بقراراها الصعب".
وفقًا للبلدية، فإن إجراءاتها التي نفذتها على "الكورنيش" تهدف لتنظيم وتجميل الواجهة البحرية، "وهو أمرٌ نُقر بأهميته" يقول حمد، مستدركًا: "لكن بشرط، أن لا يمس بقوت يومنا ورزق عيالنا". يلتفت نحو البحر، ويشير بسبابته نحو المصطافين على الشاطئ، ويختم قبل أن يعود فيلتفت إلى عمله: "نحن في الأساس نعاني من تصريف بضاعتها للمواطنين المثقلين بالهموم هنا، بل إننا أحيانًا نقدم بعضًا من رزقنا ضيافة للذين يزورون البحر بجيوبٍ فارغة".
ملاحظة: هذه المادة هي مخرج تدريبي لدورة "فن كتابة القصة الصحفية" التي نفذتها مؤسسة بيت الصحافة/ يونيو- حزيران- 2020م.