بالصور: غزة.. شبحُ الحصار يلاحقُ 'رامي' تحت البحر أيضًا

رامي مقداد شاب من غزة يمارس رياضة الغوص

اخترقت أشعة الشمس مسامات جلده ظهيرة أحد أيام مايو الحارقة، كان "رامي مقداد" يجلس عند حافة ميناء غزة ، وعيناه ترقبان بحذر "الطعم" الذي وضعه للأسماك في طرف الصنارة منذ ساعاتٍ طويلةٍ دون جدوى. فجأةً، قطعت حركةٌ غريبةٌ داخل المياه حبل صمته.

للوهلة الأولى ظنّ "رامي" أن سمكةً أمسكت بالطُعم، فابتهجت أساريره، ليقلب المشهد بعد ذلك كافة التوقعات، ويمهّد لحكايةٍ جديدة.

ما هي إلا لحظاتٌ خرج بعدها من تحت الماء رأس رجُل، فاغتاظَ رامي، وهمّ إلى تأنيبه كونه تسبّبَ بسباحته هنا، في إخافة الأسماك وهروبها من مجال صيده، ليُفاجَأَ بعدها بالسبّاح يخرج من الماء حاملًا بين يديه سمكة "جرع" كبيرة!

الحدث جعله يقف مشدوهًا، هذه الساعات التي ذهبت سدىً في حضرة الصنّارة، كان يمكن أن تُختصر بالغوص، وجلب السمكة بالحجم والنوع الذي يريده خلال بضع دقائق.

انقلب الحال، سأل رامي نفسه: "إذا كانت الأسماك موجودةً هنا، فلمَ لم أتمكن من صيدها؟"، ثم لمعَت في رأس صاحبنا فكرة، توجّه بعدها نحو الرجل بطلبٍ خجول: "هل يمكن أن تعلمني الغوص الحر؟". هذا الرجل هو اليوم أعز أصدقاء رامي، الذي أضحى ضمن (500) شاب من شبان قطاع غزة المحاصر منذ أكثر من 14 عامًا، يمارسون ويمتهنون الصيد عبر الغوص الحر في بحر قطاع غزة، على بعد أمتارٍ معدودةٍ من الشاطىء.

اللقاء الأول

طفولة رامي حتى سن العاشرة، قضاها بعيدًا عن البحر، مغتربًا في ليبيا، ليكون نصيبه بعد العودة مع أهله، أن يصبح أحد سكان مخيم الشاطيء المطل على بحر غزة، فتُبنى عبر الزمن علاقة صداقة تدريجية بينه وبين الموج الأزرق هناك، السباحة، والغوص، والصيد الذي تعلمه من أقرانه أيضًا فأضحى هوايته المفضلة.

سرعان ما تحولت الهواية إلى "مصدر رزق" يسند جيب رامي في وقت فراغه، بعد أن انتهى به الحال إلى الجلوس في المنزل، كالكثيرين من موظفي السلطة الفلسطينية بعد أحداث الانقسام الأليمة عام (2007م).

كانت أول مرةٍ يرى فيها رامي البحر من الداخل "أكثر من مذهلة"، بنظاراته الواقية نزَل نحو الأسفل، فرأى ضوء الشمس ينعكس على الصخور الكبيرة المتعرجة، والأعشاب البحرية، ناهيك عن أنواع الأسماك الصغيرة والكبيرة، الرمادية والملونة، التي كانت تختبئ منه بين الصخور، بل بعض أنواعٍ لا يمكن أن تخرج فيراها عبر طعم الصنارة.

لقد اكتشف أن البحر كان بخيلًا عليه بالهدايا، عندما لم يزرهُ هو ولا مرة، وأنه يحمل في جوفه أكثر بكثير مما عرف عنه من خلال الصيد لمدة خمس سنوات بالبوصة.

كان عام (2010م) نقطة تحولٍ حقيقية، لقد قرر رامي أن يستخدم المسدس البحري، ويحصل على هديته من البحر "بعرق جبينه"، بدلًا من انتظار مفاجآته التي تأتي بمحض الصدفة.

يقول رامي لـ "سوا": "بدأتُ أُدعِّم ما عرفته من أصدقائي حول هذا الموضوع، بالإنترنت، وتعرفتُ إلى المحترفين من الدول العربية المجاورة، الذين أصبحوا أصدقاءً لي فيما بعد".

"بحرنا فقط لمياه المجاري!"

كان "الغوص الحر" بدايةً مثيرةً ليس لرامي وحسب، بل لأصدقائه أيضًا، الذين لم يتوانوا عن الإنصات لتفاصيل تجربته التي أخذتهم إلى عوالم لم يعرفوا عنها شيئًا إلا عبر "ناشيونال جيوغرافيك". رغم ذلك كانت أعينهم تطلق رماح الريبة لتشكك في مصداقية كلام رامي عن البحر من الداخل.. بحر غزة!

لم يهتم رامي للتشكيك في البداية، إلا عندما رأى مرةً أخطبوطًا كبيرًا يراقصُ الماء بأرجله الطويلة، تدرجت ألوانه لتحاكي ألوان الطيف في ضوء الشمس المنكسر تحت الماء، هنا كان توثيقُ المشهدِ حاجة ضرورية لإقناع المشككين، لكن هذه الخطوة، استدرجته إلى فكرةٍ جديدة وهي "التصوير تحت الماء".

يردف: "استخدمتُ كاميرا صغيرة من نوع (جورج هيرو) المضادة للماء، من أجل تصوير المشاهد أولاً بأول، وتوثيق آلية الصيد، ومن ثم عرض الصور والفيديوهات عبر صفحة فيسبوك الخاصة بي". كانت تعليقات المتابعين تتوالى فور نشره الصور تحت الماء، وتتفاوت ما بين مستغربٍ ومعجبٍ، ومتساءلٍ لسان حاله يقول: "معقول في جوة بحرنا اشي غير المجاري؟!".

f233ac3a-6e95-4819-88a0-9440c6aaa58a.jpg

بدأ الناس ينظرون إلى بحر غزة عبر عدسة رامي من زاوية لم يسبق أن نظروا إليه من خلالها، لقد عادت غزة لتكشف عن وجهها الجميل، الذي نكلت به سنوات الحزن والحصار، غزة التي طالما ظلمتها الأحداث والمجريات الخانقة الدامية.

يعلق رامي بقوله: "بحرنا هو مصدرُ جمال، وتجمعٌ ضخمٌ للحياة، قبل أن يكونَ مرتعًا للمياه العادمة، وبؤرة لحصار رزق الصيادين من قبل قوات الاحتلال".

بعد نشر رامي لمشاهد مائية تلخص تجربته في الصيد، وتجوله تحت الماء، لم تعد مهارة الغوص الحر حكرًا على رامي وحده؛ حيث قرر العديد من الشبان تعلم هذه المهارة واتخاذها كهواية يمارسونها في أوقات الفراغ.

عن هذا يتحدث رامي فيقول: "كان الإقبال كبيرًا، هذا جعلنا نفكر في إنشاء "مجموعة احتراف السباحة والغوص الحر" عام (2017م)، لتقديم دوراتٍ تعليميةٍ للهواة".

رغم عدم الاعتماد الرسمي من من قبل أي جهة حكومية أو رياضية في ذلك الوقت، إلا أن رامي وأصدقائه مارسوا هذه المهارة وطوروا قدراتهم فيها، وبدأوا بتعليمها أيضًا، لتتحول الأرض تحت الماء إلى منصة يوصل من خلالها رامي وفريقه تفاصيل القضية الفلسطينية إلى العالم أسره، من خلال إطلاق المبادرات وحمل اليافطات المنادية إلى حرية الأسرى وفك الحصار عن غزة وغير ذلك، ثم تصويرها في أعماق البحر، ونشرها لتصل إلى العالم بأسره، "بل إننا نلنا تكريمًا على هذه المبادرة المميزة من هيئة شؤون الأسرى والمحررين عام 2018م" يكمل.

52b7dbd5-a8ec-4e5f-bb97-61dc049e6fff.jpg

يقول رامي: "بعد سعينا الدؤوب لتأسيس اتحاد رياضي في قطاع غزة، تم اعتمادنا من قبل الاتحاد الفلسطيني للسباحة والرياضات المائية في صيف (2018) كما تم تأسيس لجنة "الغوص الحر" التي أشغل فيها منصب الرئاسة حالياً".

شبحُ الحصار هنا أيضًا

يعاني رامي من شحّ معدات الغوص، فهي غير موجودةٍ في غزة، ذلك لتشديد الاحتلال على عدم دخولها لاحتمالية استخدامها في العمل المزدوج، يقول: "إذا تعطلت إحدى معدات الغوص الحر كالنظارة والزعانف، التي وفرتها قبل قرار منع دخولها، لن أستطيع ممارسة هذه المهارة بعدها".

يمارس "رامي" هذه الرياضة دون أنبوبة أكسجين، فيضطر لأخذ شهيقٍ يستخدمه "بشكل اقتصادي" لدقيقتين أو ثلاث تحت الماء، إلى حين إتمام تنفيذ الهدف المنشود سواءً الصيد أو التصوير، ومن ثم العودة لسطح الماء لالتقاط نفسٍ جديد.

يتابع: "أغوصُ بين الصخور بحثًا عن سمكةٍ مستخدمًا النَفَس الذي كتمتُه داخل الرئة، فأضربها بالمسدس البحري، وآخذها إلى سطح الماء، ألتقط أنفاسي، ثم أتعامل مع السمكة.

"الرزق مش ع أفيخاي!"

في مرةٍ نشر "أفيخاي أدرعي" المتحدث باسم جيش الاحتلال، على صفحته عبر فيسبوك، منشورًا مفاده " أن إسرائيل عندما وسّعت مساحة الصيد إلى (15) ميلاً، انتعش صيادو غزة، وصادوا أسماكًا فاخرة، مذيلًا ذلك بصور السمك والصيادين، الذين ظهر رامي بينهم يحمل سمكةً من نوع "جرع" بوزن (17) كيلو جرام.

يزيد: "قبل فترة، صدت سمكة كبيرة من ميناء غزة، على بعد (200) متر من الشاطئ، ووثقت الحدث كالعادة على صفحتي في فيسبوك، لأفاجأ بعد فترة بأن الصورة نُشرت على صفحة أدرعي كدليل على ادعاءات إسرائيل بتوسيع مساحة الصيد للفلسطينيين في قطاع غزة لتحسين صورتها أمام العالم".

هنا بدأ رامي بشن حملةٍ مضادة، عندما فنّد ادعاءات الاحتلال، وأكد أن البحر ما زال مغلقًا، أمام شعبٍ بات جبروت الاحتلال يقتص من أجساده وأحلامه، على مرأى ومسمع الجميع.

بدأ رامي تعلم مهارة الغوص الحر في غزة بـ"الفطرة"، دون تعليمٍ أو توجيهٍ من قبل أي جهة معتمدة، لتعليم أساسيات وثانويات الغوص الحر، فهل سيتبدل الحال ويشق طريق النور إلى العالمية؟

يردد رامي: "هذه رياضية عالمية، تُعقد فيها بطولات دولية، كبطولة صيد الحربة، والغوص الحر، نطمح في أن يكون لنا مكان على منصات التكريم خارج غزة، أو على الأقل، أن نأخذ دوراتٍ نصقل من خلالها مهاراتنا".

الزمن كفيل بتغيير الأحداث، فهل الأيام المقبلة ستمكنه وأصدقائه من تحقيق هذا الحلم، أم أنه سيبقى ضمن قائمة أحلام شباب قطاع غزة البسيطة "صعبة المنال"؟

ملاحظة : القصة، مخرج دورة تدريبية عقدتها مؤسسة بيت الصحافة بعنوان: (كتابة القصة الصحفية).

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد