تشهد الولايات المتحدة منذ نحو أسبوع وبشكل متواصل احتجاجات شعبية في عدة ولايات، بما في ذلك محيط البيت الأبيض نفسه، تعبيراً عن الغضب؛ جراء مصرع مواطن أسود على يد رجل شرطة أبيض، بشكل صفيق ومستهتر، لم يقابل من السلطات بالإجراء المناسب مع حجم الجريمة، التي أدت إلى مصرع جورج فلويد في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، وحيث إن الحدث تجاوز حدود الولاية بردود فعله، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد تدخل بشكل صفيق أيضاً في الأمر، لدرجة جعلت منه أحد طرفي المواجهة التي تجاوزت حدود الولايات المتحدة، حيث اندلعت التظاهرات في مدينة تورنتو الكندية المجاورة، تنديداً بالعنف الممارس من قبل الشرطة.


من الواضح أن هناك احتقاناً داخل المجتمع الأميركي وصل ذروته مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وقيامه ب فتح الأبواب لمارد التمييز العنصري البغيض، الذي عانت منه الولايات المتحدة طويلاً، حتى طوت صفحته، مع وصول الرئيس الأسود باراك أوباما للبيت الأبيض، لكن ترامب وكأنه نقيض أوباما وما يمثله من تعايش عرقي داخلي، ظهر معادياً لكل ما هو ليس أبيض، أولاً بما أظهره من كراهية للآخرين من غير الأميركيين، ثم تجاه من هم من أصول غير أوروبية من مواطني الولايات المتحدة نفسها.


ومنذ دخل البيت الأبيض، قام بفتح جبهات خارجية عديدة، تعبر عن حقد داخلي للرجل ولطاقمه الحاكم، وأظهر انحيازه التام للأثرياء، وكراهيته للضعفاء، كما أظهر أنه مع أصحاب الأموال فقط، وأنه لا يقيم وزناً للعدالة أو للقانون الدولي، ثم باختصار حاول أن يعيد عقارب الساعة للوراء، بفرض الهيمنة الاستعمارية الأميركية على الكرة الأرضية كلها، من خلال فرض التفوق الاقتصادي والعسكري الأميركي، وتأكيد زعامة أميركا للعالم منفردة.


حتى أنه أظهر ما هو أكثر من الخصومة السياسية تجاه الحزب الديمقراطي نفسه - الذي وصفه بالشيوعي والاشتراكي، لأنه يقول بالمساواة بين المواطنين بغض النظر عن أصولهم العرقية، ويقول بالعدالة الاجتماعية والضمان الصحي وما إلى ذلك - ما وسع الفجوة الداخلية كثيراً، إلى أن ظهر وباء « كورونا »، ليظهر استخفافه بأرواح البسطاء من الناس، لصالح رأس المال والاقتصاد الذي يتحكم به الأفراد من الأثرياء الأميركيين.


التظاهرات الشعبية التي رفعت شعار «لا أستطيع أن أتنفس» في استحضار لآخر كلمات المواطن الأميركي الراحل جورج فلويد، تعني أن الشعب الأميركي يربط ما بين الشرطي القاتل والرئيس ترامب نفسه، الذي لم يتردد في إطلاق التهديد والوعيد والضرب بيد من حديد لكل من يشارك في الاحتجاج الشعبي.


الشعب الأميركي يبدو أنه رأى نفسه على صورة الضحية فلويد، فيما رأى في ترامب رأس سلم هرم الحكم الشرطي القاتل، لذا بات يقول لترامب: إنه يريد أن يتنفس، وكأن إدارة ترامب باتت تثقل كاهله، وتجلس على صدره، لذا يريد أن يتحرر منها.


قبل أيام خرجت تصريحات من أوساط إدارة ترامب شعوراً منها بأنه خاصة بعد إدارته السيئة، بل الساذجة في مواجهة جائحة «كورونا» التي حصدت حياة أكثر من مئة ألف أميركي، يواجه حظوظاً منخفضة في الاستحقاق الانتخابي بعد خمسة أشهر من الآن، تقول باحتمال اللجوء إلى تأجيل الانتخابات، وهذا يعني أن ترامب لم يكن بحاجة إلى مشكلة أخرى أو أضافية، حتى يبدأ المقعد الرئاسي يترنح من تحت قدميه.


في الحقيقة، إن وصول ترامب للبيت الأبيض، كان عملاً في الاتجاه المعاكس، ذلك أن العالم بعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب الباردة، وتغير عالم اليوم عن عالم الأمس، بات عالماً مختلفاً عن عالم كان قبله، فيما جاء ترامب ببرنامج وسياسة معاكسة - تظن أنه بإمكانها أن تعود للوراء - بعد أن شبت روسيا والصين ودول أخرى عن الطوق، وباتت عمالقة كونيين على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.


المهم الآن أن الولايات المتحدة، نفسها لن تعود إلى الوراء، والاحتجاج الحالي الذي يشبه الربيع العربي، لن يخرج خالي الوفاض، وربما مع مرور قليل من الوقت، تقتنع النخبة الأميركية بأن التضحية بترامب هو أفضل وسيلة للاحتفاظ بما تبقى من مكانة للولايات المتحدة، على صعيد الخارج، وللحفاظ على وحدتها الداخلية أيضاً من التفكك وانعدام السلم الاجتماعي.


وكما أنه لا مجال لعودة أميركا لفصل آخر من التمييز العنصري، فإنه لا مجال لعودة هيمنتها الأحادية أو المنفردة على العالم، لذا فلا بد من قطع دابر تلك الإطلالات العنصرية الجديدة، ومن وضع حد للعنجهية «القومية» تجاه الشعوب الأخرى، والتي ظهرت مع مجيء ترامب إلى الحكم قبل ثلاثة أعوام ونصف العام.


ولعل على العكس مما يحلم به طاقم الحكم في البيت الأبيض، من محاولة تأجيل أو تعطيل الانتخابات الرئاسية، قد تكون تلك الانتخابات هي المناسبة الجيدة، للتخلص من الخطر الذي يحيط بالولايات المتحدة في الخارج والداخل معاً، ذلك أنها عبرها يمكن تغيير الاتجاه في السياسة الخارجية والإدارة الداخلية من خلال الإلقاء بترامب خارج أسوار البيت الأبيض، بشكل ديمقراطي وهادئ وطبيعي، بدلاً من اللجوء إلى فعل ذلك عبر الثورة الشعبية، أو من خلال حروب خارجية مثلاً، فإسقاط ترامب عبر صندوق الاقتراع، أفضل لأميركا من أن تضطر الجموع الشعبية لاقتحام البيت الأبيض فعلاً، وإيداع الرجل السجن، وهو متورط بالتحريض على العنصرية والكراهية.


وهذا يعني أن ترامب يلقى مصيراً ليس أفضل حالاً من مصير صديقه الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، وهكذا مع التخلص منهما معاً، فإنه يمكن القول: إن هناك عدالة إلهية قد تتحقق أخيراً، حين تعرف الشعوب كيف تواجه المستبدين والعنصريين وكارهي البشر وأعداء العدالة والمساواة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد