أحد مفاهيم السلطة المطلقة واستبدادية السياسة يعبر عنه في بعض المقولات التاريخية من خلال ما نطق به أكثر من مرة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر الملقب بملك الشمس الذي حكم فرنسا 54 عاما، أما المقولة فهي، "أنا الدولة والدولة أنا". وقد استحضرتني هذه المقولة مع متابعة محاكمة نتنياهو في محكمة القدس المركزية على خلفية ملفاته الجنائية الثلاثة، وهي المحاكمة التي جرت، الأحد الماضي، وهو اليوم الذي اعتبر في إسرائيل على نطاق واسع يوما أسود في تاريخها، فقد أجمع المؤيدون لنتنياهو، أنه يوم أسود لأنه اليوم الذي شهدت فيه إسرائيل محاكمة أكثر قادة إسرائيل شعبية، والذي تم اختياره عبر صناديق الاقتراع لقيادة الدولة، بينما اعتبر جمهور آخر معارض لنتنياهو أنه يوم أسود بالفعل لأنّ أحد أهم قادة إسرائيل لم يكن مؤتمنا على قيادة الدولة واستثمر منصبه لخدمة قضاياه الخاصة، وأنه يوم أسود كذلك لأن هذه المحاكمة ومن خلال سلوك نتنياهو وبطانته ستمهّد لحربٍ أهلية محتملة في ظل تدمير البنية القضائية والقانونية الإسرائيلية.
إحدى مفارقات اليوم الأسود هذا، أنّ فريق القضاة المكوّن من ثلاثة وصل إلى قاعة المحكمة تحت الحراسة المشددة بعد أن طلب هؤلاء مثل هذه الحراسة على إثر موجة التحريض الواسعة التي شنها نتنياهو وبطانته على المؤسسة القضائية، خاصة أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية قارنت بين الأجواء التي سادت في الآونة الأخيرة حول محاكمة نتنياهو بتلك التي سادت قبل اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رابين العام 1995 التي شارك فيها نتنياهو أيضا.
كلمة نتنياهو أمام جمهوره قبل دخوله إلى قاعة المحكمة كانت عبارة عن لوائح اتهام ضد المؤسسة القضائية، أفرادا وهيئات قانونية، من بينها المستشار القضائي للحكومة مندلبيت ورئيس الشرطة السابق روني الشيخ في دولة ديمقراطية حقيقية، لأن مجرد تسجيل مثل هذه الاتهامات تخضع مروجها للاتهام والمحاسبة ولكن ليس في دولة يحكمها نتنياهو وزمرته اليمينية المتطرفة، والآن يلعب نتنياهو ذات اللعبة الدموية التي أدت إلى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق ولكن هذه المرة في ظل عملية تحريض ممنهجة وحرب استنزاف واسعة ضد سلطات وأفراد إنفاذ القانون والمنظومة القضائية برمتها، وليس هنا أي مبالغة فحسب، رئيس قسم التحقيقات في صحيفة "هآرتس" غيدي فايتس قال في مقال له تحت عنوان "سينتهي هذا الأمر بالدماء"، مشيرا إلى تهديدات قامت بها أوساط يمينية تعرضت لحياة مندلبيت وأبنائه.
رغم كل هذا الضجيج الممنهج الذي افتعله نتنياهو وبطانته، فإن التقدير يشير إلى أنّ ذلك لن يحول دون إمكانية إدانته، وأن موجة الترهيب والتخويف والتحريض لن يكون لها أي تأثير حقيقي على قرار المحكمة التي تترأسها القاضية ريفكا فريدمان، والتي يطلق عليها قاضية كبار الشخصيات، التي أدانت رئيس الحكومة الأسبق أولمرت، أكثر من ذلك فقد أدانته بعد أن برأته محكمة سابقة بتهم الاحتيال والاحتيال المشدد وخيانة الأمانة، كما كانت واحدة من ثلاثة قضاة وجدوا أن وزير الحرب السابق إسحاق مردخاي مذنب بالاعتداء الجنسي والحكم عليه ثمانية عشر شهرا مع وقت التنفيذ.
إلا أن أهم تعليق على محاكمة نتنياهو جاء من أحد داعميه ومناصريه طوال فترة وجودها كوزير للقضاء في حكومته، النائبة إييليت شاكيد التي أشارت إلى أن نتنياهو لم يبادر إلى إجراء تغييرات في الجهاز القضائي إلاّ بعد انطلاق التحقيقات بشأن تورطه في ملفات فساد، بل إنه منع حسب شاكيد العديد مما سمته إصلاحات في الجهاز القضائي ومؤسسات إنفاذ القانون طيلة عملها كوزيرة للقضاء، إلا أن ذلك قد تم فقط بعد بدء التحقيقات معه، شاكيد نفسها قادت من حيث موقعها كوزيرة للقضاء حملة شعواء وبدعم من نتنياهو ضد المؤسسة القضائية في إسرائيل لحساب معتقداتها وميولها واصطفافها لدعم نتنياهو قبل أن تنتهي هذه الشراكة معه بعد أن غادرت التشكيل الحكومي الأخير، إلاّ أن شهادتها هذه تمثل إحدى أهم حقائق حرب الاستنزاف القضائية التي يمارسها نتنياهو ضد مؤسسات إنفاذ القانون.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية