مِن مُصوِّر الحقيقة.. إلى حقيقةٍ مُصوَّرة

هل استهدف الاحتلال عين درويش.. أم عين كاميرته؟

اصابة المصور الصحفي عطية درويش على حدود غزة

كان يمسك كاميرته بكلتا يديه، مرتدياً خوذته الصحفية ودرعه الواقي تتوسطه كلمة Press ثم انطلق بكل همةٍ وسرعة إلى حدود قطاع غزة ككلِّ جمعة من مسيرات العودة، يضبط عدسته، يحدد مركز الهدف ثم يقتنص الصورة.. هل كانت هذه الصور موجعةً الاحتلال إلى هذا الحد؟ هل تستفزه صور النيران المشتعلة، الجماهير الثائرة، العلم الفلسطيني مرفوعاً على السلك الشائك، الأطفال الذين يواجهون قناص الاحتلال بالحجارة، وصور الجرحى الذين يسقطون أرضاً، والشهداء الذين يرتقون للسموات! هل استفزتهم الحقيقة؟ ولماذا تستفزهم وهذا نهج سياستهم ومنهاج احتلالهم.

طُرِحَ أرضاً، وأفلتت يده الكاميرا، لتغطيَ شق وجهه الذي نزف دماً، وأصبح "حقيقةً تحتاج لمن يوثقها، بعد أن كان يوثق الحقيقة".

2.jpg

ما قبل (حياةٌ طموحة):

عطية درويش، شابٌ فلسطيني يبلغ من العمر32عاماً، امتهن التصوير كوسيلةٍ لكسب لقمة العيش، بعد أن وجد نفسه محباً للكاميرا وهاوياً للتصوير، فرض نفسه بين زملائه الصحفيين من خلال صوره المحترفة ولقطاته المميزة، بجهده الحثيث ومثابرته الدائمة طوّر من نفسه وارتقى مستوى أدائه بين توثيق الفعاليات والأحداث، أو الهروب لشاطئ بحر غزة وطبيعتها الخلابة يعكسها بأجمل المشاهد، ليحقق بعد ما يقارب 12 عاماً في التصوير، سبعون بالمائة مما كان يطمح إليه في مجال عمله ويتطلع له.

3.jpg

اليوم المشؤوم (يوم الإصابة):

منذ انطلاق مسيرة العودة الكبرى في الثلاثين من مارس/آذار 2018، واعتصام الغزيين في المخيمات الخمسة التي أقيمت شرق القطاع، تخليداً لذكرى يوم الأرض ، ومطالبةً برفع الحصار وتأكيداً على حق العودة.. ما انفكّ المصور درويش من الذهاب إلى ساحة المسيرة، والمشاركة فيها عبر توثيقه لكل ما يحدث هناك، فصوره التي يلتقطها باتت مرجعاً أرشيفياً لكل الجهات والأشخاص الذين يرغبون في رؤية ومشاهدة ما كانت عليه أحداث مخيمات العودة.

إلى أن كانت الجمعة الثامنة والثلاثون، والتي حملت عنوان "المقاومة حقٌ مشروع" بتاريخ الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول2018، جمعةٌ ذات حشدٍ قليل، وزخم الأحداث فيها أقل من المعتاد، لم يكن درويش يعلم حينها أن العدو لا يعرف الرحمة حتى مع قلة المشاركين، بل ويُخبئ له مفاجئةً قاسيةً صادمة..

قنبلةُ غازٍ أطلقها قناصٌ إسرائيلي متمترسٌ خلف الجدار أصابت عطية، وجه عطية تحديداً، تحت عينه اليسرى بوصفٍ أدق، وعين الحقيقة.. عين عطية ستُفقَد لاحقاً إثر الإصابة.

هل كان عطية يتوقع استهدافه؟ هل كان يدرك أن قناص الاحتلال لا يميز بين شيخٍ كبيرٍ وطفلٍ صغير؟ هل كان يظن أن العدو سيضع اعتباراً لزيه الصحفي الذي يحتمي به؟!

لا، لم يكن غافلاً عن همجية الاحتلال وتوحشه العدواني، لكنه كان يأمل لو أن الإصابة كانت في غير موضع، لو أن بصر عينه، وبصيرة كاميرته لم يتضررا.

4.jpg


ما بعد (رحلة علاج):

في مستشفى الشفاء بقطاع غزة بدأ درويش رحلة العلاج لوجهه، وطيلة فترة مكوثه في الشفاء، لم يتلق خبر تضرر عينه، كما أنه لا يعرف إذا ما كان الطاقم الطبي يعلم ذلك ولا يريد إخباره، أم أنه لا يعلم..

كانت مصر المحطة الثانية التي سافر إليها بحثاً عن علاجٍ أفضل، وكله أمل بتحسن وضعه الصحي، إلى أن فوجئ هناك بإخبار الأطباء له بفقد إحدى عينيه، وأن لا مجال لعلاجها أو عودة النظر إليها، مع مشاوراتٍ بين الأطباء لإجراء عمليتين آُخرتين لحقن وجهه بالدهون بعد الفراغ الذي أحدثته القنبلة.

لم يفقد درويش الأمل في علاج عينه، وإثر حملةٍ صحفية تضامنية قام بها نشطاءٌ وصحفيون مع الصحفي الفلسطيني معاذ عمارنة الذي فقد هو الآخر بصره عقب استهداف الاحتلال المباشر لعينه برصاصةٍ معدنية خلال تصويره للاشتباكات بين المواطنين الفلسطينيين وجيش الاحتلال قرب الخليل، أثار الزملاء الصحفيون قضية درويش على الساحة، لتسليط الضوء على جرائم الاحتلال بحق الصحفيين وتعمده طمس الحقيقة بمختلف أشكالها، كتابة كانت أو صوتاً وصورة، إذ يفيد تقريرٌ لمركز الميزان لحقوق الإنسان أن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي للصحفيين خلال مسيرة العودة وحدها، بلغت 173إصابة واستشهاد اثنين، علماً أن الاحتلال لا يتوانَ عن الاستهداف المباشر للصحفيين بقنابل الغاز أو الرصاص المطاطي وغيره، والاعتداء عليهم وعلى أماكن عملهم وكذا اعتقالهم ومداهمة منازلهم أو منعهم من السفر.

وبعد ضغطٍ من الوسط الصحفي، تم توفير تحويلة علاج لدرويش إلى الأردن، لتكون وجهته الثالثة والتي لازال يتلقى العلاج فيها حتى الآن، لم يختلف تشخيص الأطباء في الأردن عما كان عليه في مصر، فما عليه الآن سوى التكيف مع الحقيقة الموجعة، فقدان عينه اليسرى، وتضرر في سمعه، إلى جانب إجراءه عمليات جراحية لترميم الوجه.

5.png


لم تكن هذه كل تفاصيل القصة، فتبعات الإصابة النفسية أشد وطأةً على المصور درويش من الضرر الجسدي، فذاك يمكن التأقلم معه مع مرور الوقت، لكنه ومنذ أن أصيب يتمنى لو أنه يتمكن من نومٍ عميق ومريح، فمن جهة لا يستطيع النوم على شقه الأيسر نظراً للبلاتين الذي وضع فيه، ومن جهةٍ أخرى فالأرق والقلق ملازمان له لا ينفكان عنه.

كيف لمن اعتاد عمله، مثابراً في الميدان جيئةً وذهاباً تحت أشعة الشمس، حاملاً كاميرته على أهبة الاستعداد دوماً لتغطية أي حدثٍ أو فعاليةٍ أو نقل خبرٍ أو حتى لمجرد التقاط صورةٍ جميلة لموج البحر أو شجرةٍ أو وردةٍ أو وجهٍ أو ابتسامة.. كيف لمن حصد خمس جوائز في التصوير الصحفي أن يتكيف مع فقدان عينه، وعين كاميرته، كيف له أن يتقبل أن صور ما بعد، لن تكون كصور ما قبل؟!

الحقيقة، الحقيقة.. وصية درويش لزملائه الصحفيين، رغم وجعه الشديد والضغط النفسي الأشد الذي يعانيه، إن رصد جرائم الاحتلال وكشفها وتوثيقها، بل والمحاربة بها في المحاكم الدولية أمانةٌ في أعناقكم ورسالةٌ واجبة لا بد من تأديتها، رسالةٌ بسيطةٌ في مظهرها، ساميةٌ في جوهرها، حتى لو كان المقابل: أرواحنا ودمائنا، فإن القضية تستحق.

6.jpg
7.png
اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد