على عتبة بيتنا كورونا

ثنائية الكورونا والفقر تجتمعان في الثلاجة

أطفال يعلبون في أحد أحياء مدينة غزة الفقيرة

نفضت أم سعيد زعرب الغبار عن أغطية الأولاد، استعدادًا ليوم جديد من يوميات التعايش مع الفقر في ظل الضيف الثقيل فايرس كورونا ، تُنشد الأم باب ثلاجتها المتهالكة والتي ربطت حزامها بقفل حديدي خشية أن يتسلل الأطفال إليها خلسه وينقضوا على بقايا الطعام، فالمساعدة الغذائية المخصصة من وكالة الغوث "اونروا" لم يحن موعدها بعد، ينتظر الأطفال أمام باب الثلاجة، تستعد الأم لفتحها أمام أعينهم لإخراج الطعام، يخشى الأطفال أن يتسلل إليهم فايروس كورونا من الثلاجة، فقد وضعت الأم في لبنة تفكيرهم أنه يرقد في الثلاجة، كي لا يتمكنوا من فتحها والاستفراد بالطعام.

اجتمعت في بيت أم السعيد، ثنائية شديدة التعقيد، الفقر والكورونا، ثنائية رسمت معالم جديدة من البحث عن المصلحة الصحية والتزام الحجر المنزلي، وآخرى من البحث عن الاستقرار الغذائي والاقتصادي في ظل سياسة الفقر التي تعيشها العائلة، على عتبة البيت كورونا، هي أحاديث الجدات للأحفاد بدلاً من حكايات سعسع ومعمع، بدلاً من مغامرات الشاطر حسن، وخرافات الغولة التي تأكل الأطفال، كورونا البُعبُع الجديد، الذي تُخوف به الأمهات أطفالهن من الاقتراب من باب الثلاجة، لأن كورونا بداخلها، هي الحيلة التي ابتكرتها السيدة أم السعيد، كي تُبقي أطفالها بعيدين عن الثلاجة التي تضم في أحشائها مؤنه الأيام القادمة من الطعام.

في بيت أم السعيد، في أكثر المناطق فقراً وتهميشاً في القطاع بمنقطة نهر البارد غرب مدينة خانيونس، ووسط زُحام أكوام القمامة ومياه الصرف الصحي، لفض المساء أنفاسه الأخيرة، وزفر الليل بعتمته، ترقباً لليل طويل من ليالي الكورونا، تربعت في صحن بيتها رفقة أطفالها الأربعة، تُحاكي زمن ما قبل الكورونا، عندما اجتمعت ثنائية الحصار والفقر على عتبات بيتها، تستذكر لهم طرفة تُسليهم وتخفف عنهم وطأة الجوع والحرمان، تُساند همومهم وتصرف عنهم ضيق الحال، اليوم تُضيف السيدة الأربعينية لتلك النكبات نكبة جديدة، تُدعى الكورونا.

تعمل أم السعيد في صناعة الأثداء الصناعية لمريضات سرطان الثدي، تسعى من خلال هذه الصناعة توفير قوت يومها، حيث تبيع الثدي الصناعي بقرابة ال25 دولار، سبق وأن أُصيبت بمرض السرطان وحاولت جاهدة من خلال مؤسسات مجتمع مدني توفير ما يشغل وقتها فقد تعلمت صناعة الأثداء الصناعية في جمعية خيرية بمدينة غزة ، وأصبحت تُذر دخلاً عليها يساهم في تحقيق أحلام أطفالها وتوفير قيمة الدواء لها، الحياة تغيرت في ظل كورونا، فقد أجلسها الوباء في البيت رفقة الأطفال، لا تدري أتصنع لهم الطعام أم توفره لهم، أم توفر لهم حصص دراسية تعويضية في الوقت الذي أُغلقت فيه المدارس تخوفاً من وحش كورونا.

الاستقرار الغذائي بات هاجس أم السعيد في زمن الكورونا، في وقت لا تعلم متى ينتهي هذا الكابوس وتعود فيه حياة الحصار إلى طبيعتها، في داخلها تقول " لا يمكن لنا أن نموت في غزة من الكورونا والحصار، فإما الكورونا أو الحصار، أحلاهما مر في مُخيله السيدة التي اتكأت بيدها على خدها، وسط صيحات الأطفال المطالبين بوجبة الغداء.

أَعدت الأم طعام الغداء، هلل الأطفال فرحين بأن أُمهم انتصرت على الوحش كورونا القابع في ثلاجة بيتهم، ولكنها أيام تتلوها أيام، وقد بدأ الطعام ينحصر من أرفف الثلاجة، خيم الحزن على أم السعيد، ولا تدري من أين تأتي بعبارات وحيل جديدة تقنع بها أطفالها بإنه لا كورونا في الثلاجة بل الفقر، تبحث عن إجابات لتساؤلات أطفالها البريئة عن مستقبلهم في ظل كورونا - " الطعام أولاً"-، أحدهم فكر في كيفية التعاطي مع فايروس كورونا الذي يرقد على أمعائهم ويتربص بثلاجتهم، وبات الخوف مرسوماً على وجوههم لأن أمهم تُخاطر بنفسها وت فتح الثلاجة وتقاوم كورونا كي تُحضر لهم الطعام، بات الأمل مُعلقاً في تلك الثلاجة التي تضم الطعام والكورونا في آن واحد. مزيداً من الخدع تبتكر الأم يوماً بعد الأخر لإبقاء أطفالها بعيدين عن أبواب الثلاجة، كي تُبقيهم في استقرار غذائي، ولكن الكارثة أن الطعام والخضروات بدأت تنفذ من الثلاجة، وأُفرغت تماماً من مكوناتها، وباتت حيَل الأم لا تنجلي على الأطفال، فلم يَعد هناك طعام داخل الثلاجة وبقيت الكورونا، وأسئلة أطفالها لماذا تختبئ الكورونا في الثلاجة.

تقول أم السعيد "كورونا، يا لها من تعب بالليل وشقاء بالنهار، بالليل تُفكر في كيفية احضار طعام الأطفال، وفي النهار تُصارع كورونا كي أُحافظ على أبنائي في وقت الاستماع للإيجاز الصحفي اليومي الذي وبحذ ذاته يُمثل ارهاق نفسي وجسدي، الخشية أن ينتشر المرض في قطاع غزة، الذي لا حول له ولا قوة، ولا تجد كمامات ولا معقمات ولا أجهزة تنفس في مستشفيات غزة، بعد سنوات الشقاء في ظل أيقونة الحصار التي شاهدها العالم وعاش ظروفها وواقعها بسبب كورونا، فقد أصبحت غزة والعالم سواسية، لا فرق بينهم، كلهم تحت وطأة الحصار والحجر الصحي، تعساً لذلك الحصار الذي أبقى غزة والعالم في بيوتهم، الفرق بين كورونا غزة وكورونا العالم، أن الأخيرة حملت رسالة قطاع غزة، وألقت بها في بيوتهم ليكتشفوا حجم الظلم الذي وقع على سكان القطاع طوال السنوات الأربعة العشر الماضية".

ساد الصمت أكناف البيت، الكُل يترقب المشهد الأخير من مسلسل الكورونا، فكر أحد الأطفال بفصل سلك الكهرباء عن الثلاجة، بعدما تضور جوعاً باحثاً عن الطعام، وقرر أن يتسلل في جناح الليل إلى الثلاجة ويقتل الكورونا، ويقتل جوعه، ولكنه عندما فتحها وجدها فارغة.

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد