في ظنّي أن هذا السؤال بالذات هو السؤال الأهمّ، والهاجس الرئيس عند معظم الناس في بلادنا. والسبب هو أن المجتمع الفلسطيني - إذا جاز الحديث عن المجتمع - بات مطمئناً نسبياً بأن فلسطين ربما تكون قد تجاوزت مخاوف تكرار ما حصل في بعض بلدان أوروبا الغربية، أو حتى الولايات المتحدة أو غيرها من بلدان الإصابات الكارثية.
وفي أغلب الظنّ، أيضاً، فإن الفلسطينيين باتوا متيقنين من أن الإجراءات والتدابير الرسمية التي التحمت مع مجموعة كبيرة من المبادرات الأهلية قد وضعت المجتمع الفلسطيني أمام سؤال العودة إلى الحياة الطبيعية، بعد أن كان السؤال قبل ذلك هو سؤال الخوف من التفشّي الكبير للوباء.
لا أقصد من طرح السؤال أن بإمكان أحد الإجابة عنه غير الجهات الرسمية التي ستستند في قرارها إلى معطيات الواقع، وإلى حسابات صحية واقتصادية، بل وحتى سياسية دقيقة، وبعد أن تكون هذه الجهات قد اطمأنّت إلى أدقّ التفاصيل المطلوبة.
الأمر وما فيه أن هناك ما يكفي من التخمينات والتقديرات التي دارت وتدور في معظم البلدان حول هذا السؤال بالذات، وحول العناصر التي يجب أن تتوفّر قبل أن تأخذ الجهات الرسمية القرار بالعودة إلى الحياة الاعتيادية. قبل كل شيء لا يوجد إمكانية مهما كانت عليه الظروف للعودة إلى الحياة الطبيعية إلاّ بصورة «تدرجية».
والعودة إلى الحياة الاعتيادية الطبيعية التدريجية تعني أن العجلة الاقتصادية في بعض القطاعات ستعود إلى الدوران بقيود كافية، لضمان أن لا تكون هذه العودة بأي شكل من الأشكال على حساب الصحة العامة، أو أن تكون هذه العودة سبباً مباشراً من أسباب «العودة» إلى زيادة عدد الإصابات أو ازدياد انتشار الفيروس.
وبمعنى آخر هناك نقطة توازن معينة لا بد من الوصول إليها لكي تسمح الجهات الرسمية بالموافقة على البدء بنوع من التعايش بين وجود إصابات بأعداد معينة أو حتى بؤر صغيرة مسيطر عليها، وبين التدرُّج في تشغيل القطاعات الاقتصادية ذات الأولوية وقليلة المخاطر نسبياً.
معظم الدول التي لديها نفس المستوى من الإصابات التي لدينا ترى أن مرور ما بين عشرة أيام وخمسة عشر يوماً من دون إصابات، أو بإصابات مخالطة بسيطة في بؤر محددة سلفاً ومعروفة ومراقبة، وتحت السيطرة، إنما هو إشارة البدء بالعدّ التنازلي للإغلاق، والمباشرة بالعودة التدريجية المدروسة لاستئناف بعض النشاطات الإنتاجية والخدمية، والعودة إلى المدارس والجامعات وغيرها من النشاطات في مراحل لاحقة.
في البلدان التي لديها إصابات عالية جداً كما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وبلدان أخرى مرشّحة للسير في مسار هذه البلدان، كما هو الحال في إيران وتركيا وغيرها، هناك تسري معادلة الذروة والمنحنى والتوازن، أو بالأحرى اختلال أو اختلاف التوازن ما بين عدد الإصابات وعدد المتعافين والمتوفّين.
في هذه البلدان يفكرون بالعودة إلى التدرُّج في تشغيل العجلة الاقتصادية مع بدء نزول المنحنى لصالح عدد المتعافين والوفيات على حساب عدد الإصابت الجديدة.
قد لا تصلح هذه المعادلة لحالتنا بالضرورة، وقد يكون عدم تسجيل إصابات جديدة لمدة أسبوعين كافياً أو مناسباً للبدء في العودة التدريجية لمزاولة أعمال ونشاطات معينة.
المهم هو المحافظة على أعلى درجة من درجات التباعد الاجتماعي في المراحل الأولى من العودة إلى بعض الأعمال، والمهم أن لا يُسمح لأية أعمال من شأنها أن تؤدي إلى كسر هذا المحذور، وعلى أن تستمر كل التدابير المرافقة من تعقيم ونظافة واستخدام الكمّامات وغيرها.
الحذر الشديد هنا له سببان:
الأول، هو أن العودة المباغتة لظهور بؤر جديدة ليس أمراً مستبعداً بالكامل، وقد نفاجأ بها في أي لحظة، مهما كانت درجة الحرص والتحوُّط، كما حصل في بلدان أخرى مثل كوريا الجنوبية ـ على سبيل المثال ـ والأمر مازال مطروحاً في الصين، أيضاً.
والثاني، أن فترة الحضانة التي بات متعارفا عليها بحوالى الأسبوعين ليست مؤكدة بصورة مطلقة، وهناك من الوقائع ما يشكك في دقتها، أو ربما مازال هناك بعض الغموض في هذه المسألة.
هذا إضافةً إلى أن حاملي الفيروس من دون أعراض، وهم مكمن الخطر ومصدره الذي يدعو إلى الحذر والقلق في آنٍ معاً، يستحيل التأكد من وجودهم إلاّ عند ظهور الأعراض على كل أو بعض مخالطيهم، ما يعني أن إصابات قد تظهر في أي لحظة حتى ولو مرّ أسبوع أو أسبوعان من دون إصابات.
على كل حال لا يمكن تصور أننا سنعود إلى الإغلاق لمجرّد ظهور بعض الإصابات أو بعض البؤر، إلاّ إذا كان الأمر على درجة جديدة وكبيرة من التفشي، وهو أمر مستبعد تماماً في الحالة الفلسطينية.
المؤكد حسب واقع الحال في فلسطين هو أن الحذر الشديد، مع بقاء الجاهزية والاستعداد للتعامل الفوري مع أي إصابات أو بؤر جديدة يجب أن يظل قائماً، وهو سيظلّ قائماً، كما أن درجة الالتزام العالية التي أبداها المجتمع الفلسطيني ستظلّ عالية بحكم الثقة العالية التي باتت تربط الجمهور الفلسطيني بالقرارات والإجراءات الرسمية.
عندما أتحدث مع أصدقائي في أوروبا على الهاتف وأذكرُ لهم عدد الحالات في فلسطين، وكذلك في الأردن الشقيق، وأذكر لهم تراكم الحالات منذ الإصابة الأولى في البلدين، أشعر بالزهو والاعتزاز، لأنهم ببساطة يشعرون بالذهول.
شيء لا يصدق فعلاً كيف استطعنا حتى الآن أن نحمي مجتمعنا بالإمكانيات المتواضعة التي لدينا، وشيء لا يصدق أن تكون الجهات الرسمية في كلا البلدين على هذه الدرجة من الحنكة والإخلاص في وقت أن قيادات عالمية فشلت في هذا المجال بالذات، وكان لهذا الفشل نتائج كارثية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية