يُعقد هذه الأيام في القدس المُحتلة مؤتمر المنتدى العالمي الخامس للهولوكوست بزعامة نتنياهو وحضور أكثر من أربعين زعيماً من شتى بقاع الأرض، تحت عنوان (تذكر المحرقة.. محاربة معاداة السامية)، في أكبر عملية تزييف للتاريخ وتشويه للحاضر وتخريب للمستقبل، من خلال توظيف المحرقة النازية لتقديس الضحية اليهودية لخدمة أهداف الدولة العبرية ابتداء من تثبيت شرعية وجودها، وانتهاء بتبرير محرقتها المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني، مروراً بابتزاز حلفائها لزيادة دعمها والدفاع عن عدوانيتها، كما خدمت في الماضي أهداف الحركة الصهيونية وإخراج مشروعها الصهيوني إلى الوجود في دولة قومية لليهود. ولإلقاء الضوء على مؤتمر الهولوكوست ودوره في توظيف المحرقة وتقديس الضحية لخدمة أهداف الصهيونية ودولتها من المفيد العودة إلى مفهوم (الهولوكوست) بمعنى المحرقة، ومناقشة حجمها الحقيقي، وكيفية استغلال الحركة الصهيونية لها في إقامة دولتها (إسرائيل)، وشرعنة وجودها، وتبرير إرهابها ومحرقتها المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني.

الهولوكوست كلمة يونانية الأصل تعني حرق القربان بالكامل، وتشير إلى عمليات إبادة اليهود على يد ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، والحقيقة أن ألمانيا بعد صعود أدولف هتلر وحزبه المُسمى حزب العمال القومي الاشتراكي المعروف اختصاراً بالحزب النازي عام 1933، قد تبنى أفكاراً عنصرية ضد كل الأعراق غير الآرية الجرمانية، واعتبر اليهود عرقاً وخصهم بالعداوة والبغضاء، وتم توثيق ذلك في برنامج الحزب النازي "اليهود عرقية موهنة للمجتمع ومعيقة لنقائه العرقي وبالتالي لا يمكن أن يكونوا أعضاء في الدولة الألمانية"، واتهم اليهود بالتسبب في هزيمة ألمانيا بالحرب العالمية الأولى، والوقوف وراء الدمار الذي لحق بها اقتصادياً وسياسياً، فأخذ باتباع ما عُرف بالحل النهائي للمسألة اليهودية، فجمعهم بمعسكرات اعتقال في ألمانيا والدول التي سيطر عليها وأهمها بولندا، وقام بحملات إبادة منظمة ضدهم، وضد فئات بشرية أخرى كالغجر والمعاقين انطلاقاً من أيديولوجيتة العنصرية، وعدد الضحايا في هذه المعسكرات قليل مقارنة بملايين الضحايا الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية بسبب الوحش النازي والصراع الدموي داخل البيت الأوروبي فسقط ما بين خمسين إلى ستين مليوناً من العسكريين والمدنيين كان نصفهم من الاتحاد السوفيتي وربعهم من بولندا وألمانيا نفسها.

استغلت الحركة الصهيونية كبر حجم الضحايا والفوضى في تحديد أرقامهم وجنسياتهم فزعمت أن عدد اليهود الذين أُبيدوا في الحرب العالمية الثانية على يد ألمانيا النازية قد بلغ ستة ملايين يهودي. وهذا الرقم الكبير مشكوك في صحته من الكثير من المفكرين والباحثين والمؤرخين الأوروبيين، واثبت بعضهم أن عدد اليهود الذي قُتلوا لأنهم يهود يتراوح بين مائة ألف إلى ستمائة ألف كحد أقصى، وأن مئات الآلآف غيرهم قُتلوا في المعارك والمذابح التي نفذها الألمان في الجبهات وبعد المعارك خاصة في الاتحاد السوفيتي وبولندا، وأن العدد في كل الأحوال لا يمكن أن يصل إلى الملايين الستة لأنه يتناقض مع عدد اليهود الحقيقي في أوروبا آنذاك. حتى أن المؤرخ البريطاني (ديفيد ايرفينغ) المتخصص في تاريخ الحرب العالمية الثانية يقول أن معظم اليهود قد ماتوا بسبب الأمراض المنتشرة في معسكرات الاعتقال النازية وسوء التغذية والرعاية الصحية، وأن معظم الضحايا اليهود قُتلوا كما قُتل غيرهم من الروس والبولنديين في المعارك أو المذابح. وهذا رأى المفكر الفرنسي (روجيه جارودي) في عدد الضحايا وأسباب الموت، ولذلك فقد أُتهم الاثنان بإنكار المحرقة وتم تقديمهما للمحاكمة وهي تهمة موجودة في بعض القوانين الأوروبية، بينما لا يوجد تُهمة مشابهة تجرمُ من ينكر وجود الله تعالى أو تنكر نبوة المسيح عليه السلام.

لم يكن تضخيم الهولوكوست أو المحرقة النازية ضد اليهود عبثاً فقد كان التضخيم مقصوداً، والتزييف مطلوباً من الحركة الصهيونية في ذلك الوقت من أجل صناعة صورة الضحية اليهودية لاستغلالها باتجاه إخراج المشروع الصهيوني الرامي إلى اقامة دولة قومية لليهود في فلسطين إلى حيز التنفيذ، من خلال توظيف المعاناة والعذاب، وتقديس المأساة، والكارثة، واحتكار الحزن والألم، لإثبات أن المحرقة قد حدثت بسبب كراهية الأغيار (غير اليهود) لليهود واضطهادهم، وعداوة شعوب العالم لليهود وعدم قبولهم التعايش السلمي معهم، وحقد حكومات الدول على (الشعب اليهودي) وتنفيذ مذابح بحقهم... وبالتالي لا يوجد طريق لحماية يهود العالم من هذا الاضطهاد والعداوة والمذابح إلاّ بإقامة وطن قومي خاص بهم، ودولة للشعب اليهودي، كحل وملجأ وحيد أمام عدائية العالم لليهود المعروفة بـ(اللاسامية) وهذا المنطق الأعوج أكده نتنياهو بقوله: "إن المحرقة وقعت عندما كانت دولة إسرائيل غير موجودة، وبسبب عدم وجود دولة إسرائيل، لو كانت دولة إسرائيل قد نشأت قبل المحرقة لكان الأمر سيحول دون وقوعها، إن اليهود يعجزون عن حماية أنفسهم دون أن تكون لديهم دولة خاصة بهم... وعليه فقد أنشأنا دولة".

توظيف واستغلال الحركة الصهيونية للمحرقة النازية لم يتوقف عند اقامة دولتهم؛ بل استمر بعد قيام الدولة، في دعم شرعيتها، وتبرير جرائمها، واستغلت عُقدة الذنب الأوروبية للحصول على الدعم بالموقف والمال والسلاح والرجال، فأصبح هذا الدافع لا يقل أهمية عن الدافع الايديولوجي لدى المسيحيين الصهاينة، والدافع السياسي لحكومات الغرب، فالتكفير الغربي عن المحرقة من منطلق الشعور بعقدة الذنب تجاه صورة الضحية اليهودية خاصة في ألمانيا كان هو الدافع وراء دعمها غير المحدود لدولة (إسرائيل)، وقد أحسنت الحركة الصهيونية والدولة العبرية استغلال هذا الشعور الألماني والأوروبي لصالحها، فعملت على حصر عقدة الذنب الألمانية في جريمة الألمان النازيين ضد اليهود، وتجاهلت جرائم ألمانيا النازية ضد عشرات الملايين من الشعوب الأوروبية والسوفيتية، وبالغت في أعداد الضحايا اليهود لأكثر من عشرة أضعاف العدد الحقيقي بغرض ابتزاز ألمانيا سياسياً بالمواقف المؤيدة لها، واقتصادياً بعشرات المليارات من الدولارات على صورة تعويضات مباشرة للضحايا أو للحكومات الإسرائيلية باعتبارها ولية الدم اليهودي، وكذلك على صورة أسلحة متطورة مجانية لا سيما الغواصات النووية الحديثة، وقد عبرت الناطقة باسم السفارة الإسرائيلية في برلين عن استغلال عقد الذنب الألمانية من المحرقة بقولها:" إن مصلحة إسرائيل تقتضي صيانة شعور الألمان بالذنب تجاه اليهود".

لم يقتصر استغلال المحرقة على مرحلتي إقامة دولة (إسرائيل)، وتثبيت وجودها؛ بل امتدت إلى تبرير سياستها العدوانية ومذابحها الوحشية تجاه الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية بمنطق أعوج يقوم على أُسس عنصرية لا تحتكر فقط أفضلية الجنس اليهودي باعتباره شعب الله المختار وأبناء الله وأحبائه، بل بعنصرية الحزن التي ترفض أن تساوي بين حزن وألم اليهود، وحزن وألم الشعوب الأخرى خاصة الشعب الفلسطيني، نافية عنه امتلاك نفس المشاعر والانفعالات التي يتساوى فيها كل البشر، ولذلك فقد تعرض الصحفي في إذاعة الجيش الإسرائيلي (رازي بركاي) لهجوم عنيف من الاعلام والمجتمع الإسرائيلي لمجرد أنه ساوى بين عائلات الشهداء الفلسطينيين وحزن عائلات قتلى الجيش الإسرائيلي، ولذلك فإن المحرقة النازية ضد اليهود لا تساويها أي محرقة أو مذبحة أخرى قام بها الوحش النازي ضد الشعوب الأخرى ليس بسبب حجم الجريمة والمذبحة، بل بسبب خصوصية الضحية وهم اليهود شعب الله المختار، وهو ما علّق عليه عالم الاجتماع الفرنسي (ادغار موران) عندما أطلق اسم (عُصاب المحرقة) على إبراز فرادة وتميز موت اليهود في المحرقة، وخصوصية آلام اليهود كون المحرقة وقعت ضد اليهود وليس بسبب حجمها الكبير، وهذا المنطق هو الذي يُبرر لليهود الضحايا محرقتهم المستمرة ضد الشعب الفلسطيني باعتباره دفاع عن الضحايا اليهود.

والمحرقة لم توظف ضد العرب والفلسطينيين فقط، بل امتد استغلالها ضد كل الأحرار في العالم الذين ينتقدون سياسة (إسرائيل) العدوانية تجاه العرب والفلسطينيين باتهامهم بمعاداة السامية وإنكار المحرقة، ونجح اللوبي الصهيوني في أمريكا بتجريم من يقارن بين جرائم النازيين وبين السياسة الإسرائيلية العدوانية ضد الفلسطينيين. بل أنها استخدمت ضد اليهود أنفسهم خارج الكيان الصهيوني من خلال ابتزازهم وممارسة الارهاب الفكري عليهم بإقناعهم طوعاً أو جبراً بأن سبب وجودهم بدون محرقة جديدة في بلدانهم هو وجود دولة (إسرائيل)، لذا عليهم دعمها بالمال والموقف بدون شروط أو قيود، وإذا كان العدو قد نجح في تضخيم وتوظيف المحرقة لإقامة دولته، وشرعنة وجودها، وتبرير إرهابها، وابتزاز حلفائها... فما أحوجنا – نحن الفلسطينيين – إلى توظيف المحرقة الإسرائيلية المستمرة ضدنا لتثبيت الرواية الفلسطينية الصادقة للصراع، وخدمة أهداف المشروع الوطني الفلسطيني القائم على التحرير والعودة والاستقلال.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد