بعد انتخاب بنيامين نتنياهو لرئاسة الليكود مرةً أخرى وهو متهم بثلاث قضايا فساد كبرى يمكن القول «أهلاً بإسرائيل في حظيرة العالم الثالث الذي ينتخب الفاسدين زعماء له».
قد لا تكون المسألة بهذا الوضوح في الانتخابات العامة التي جرت في إسرائيل مرتين خلال العام الماضي لأن الجمهور يصوت لأحزابه التاريخية ارتباطاً بولاء تاريخي أو لأسباب ثقافية أو أيدلوجية لكن هذه المرة الأمر مختلف.
اختلفت الانتخابات التي أجراها حزب الليكود يوم الخميس الماضي عن الانتخابات العامة بمسألتين؛ الأولى أن هذه أول انتخابات تجري بعد أن قال المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت كلمته ليصبح بنيامين نتنياهو متهماً بملفات جاهزة، والثانية أنها أول انتخابات لشخص نتنياهو وليس لحزب الليكود... وقد تم اختياره بما يحمله من ملفات في انقلاب على ثقافة إسرائيل الانتخابية وارثها الطويل مع القضاء والشفافية.
سابقاً كان مجرد اتهام رئيس وزراء يدفعه للتنحي جانباً، ونذكر آخر رئيس وزراء قبل نتنياهو وهو إيهود أولمرت الذي غادر منصبه. ورفضت الأحزاب الاسرائيلية حتى أن تعمل معه في حكومة واحدة، هكذا قال باراك حينها الذي كان رئيساً لحزب العمل ووزير دفاعه ليسلم أولمرت الحزب لتسيفي ليفني. لكن نتنياهو لم يسلم، وحزبه الذي انتخبه محملاً بفساده تغير، والأحزاب الإسرائيلية اليمينية والدينية هنأته بالفوز، حتى خصمه جدعون ساعر كان قد قال قبل الانتخابات بيوم إنه سيعين نتنياهو رئيساً للدولة في ضربة للقضاء ومنظومة القيم القانونية التي تُفاخر بها إسرائيل، حين تعين فاسداً لرئاسة الدولة، ليثبت أن الثقافة السياسية في إسرائيل هبطت الى هذا المستوى الذي أصبح لم يعد فيه الفساد والنقاء معياراً في العمل السياسي.
تلك الثقافة تمثل تحولاً كبيراً وربما تعتبر بُشرى لخصوم إسرائيل التي تشكل معاييرها القانونية في الحكم أحد أبرز ركائز قوة الدولة وأعمدتها. ولكن السؤال: هل هذا يشمل الدولة كلها وتحول الى ثقافة عامة؟ ومنه السؤال الذي يليه: لماذا هذا التحول الذي نراه؟ أغلب الظن أن ذلك مازال محصوراً في اليمين الإسرائيلي، حزب الليكود والأحزاب الدينية المتحالف معها وهي التي هنأته بالانتخابات، وأحدها مثل «شاس» يقف على رأسه الحاخام أرييه درعي وكان سجن بقضايا اختلاس. هذا حتى اللحظة، ولكن لا يمكن إغفال المفاوضات الائتلافية التي جرت خلال الأشهر الماضية من قبل حزب «أزرق أبيض» للشراكة مع نتنياهو الفاسد.
الفساد أكثر قبولاً لدى اليمين والأيدلوجيين والمتدينين، وهنا الأهم. هذا اليمين له أولويات مختلفة، إذ تعلو أولوية الحكم والوصول اليه على أي أولوية أخرى، حتى لو كان الفساد أحد أشكال الوصول، حيث يعتبر اليمين نفسه حاملاً لرسالة دينية هي الأهم، وبهذا تصبح الأولوية دينية بتعبيراتها السياسية متقدمة على الأولوية الوطنية، مثل بناء الوطن والقانون والشفافية.
وبالتالي، يمكن القول إن تقدم اليمين في إسرائيل وسيطرته على النظام السياسي يُحدث تغيراتٍ بطيئةً على شكل ولون الدولة التي أسسها بن غوريون قبل أكثر من سبعة عقود.
تقدم اليمين الذي يسارع بأخذ الدولة نحو دول ومنظومة العالم الثالث السياسية لم يكن وليد السنوات الأخيرة، بل هو نتاج تطور هادئ منذ إقامة الدولة، لكنه وصل الى الحكم في العقدين الأخيرين، وأصبح في عقده الأخير بلا شريك ليتصرف ويفرض وجهته السياسية والخارجية وحتى في اطار القانون، وهو ما عبر عنه بوضوح نتنياهو لحظة إعلان ملفاته، عندما هاجم القضاء والنيابة وكل أركان الدولة التي عملت على الوصول الى حقيقة اتهامه بالفساد، وذلك بالأدلة التي لا تقبل الجدل.
وإذا كان اليمين ينمو بهدوء في الدولة، ويسيطر بهدوء على أركانها، لكن لا يمكن إغفال دور نتنياهو في تسريع تلك السيطرة وإحداث التحولات كافة. فقد أحدث تغيراً في بنية حزب الليكود، إذ أدخل فتيان التلال وشبيبة المستوطنين كأعضاء في مركز الحزب وحوّل الليكود الى قلعة من قلاع اليمين، وتمكن من إذابة عملية التسوية وإنهاء حل الدولتين وترسيخ الاحتلال وتدمير المفاوضات، والأهم تغييب العلاقة مع الفلسطينيين عن جدول أعمال الدولة والنقاش العام.
ترأس نتنياهو الليكود للمرة الثانية في تشرين الثاني 2005 قبل أربعة عشر عاماً، وها هو يعاد انتخابه مرة أخرى، وهي سابقة لم تحدث في اسرائيل سابقاً، وقد تجاوز أيضاً مدة رئاسته للوزراء الرقم القياسي محطماً رقم بن غوريون القياسي مؤسس الدولة. فالانتخابات التي جرت في الليكود هي الأولى منذ خمس سنوات عاشها نتنياهو زعيماً بلا منازع، بعد أن تمكن من تدمير كل خصومه داخل الحزب وتحطيم كل مراكز القوى، وآخرهم قبل ساعر كان داني دانون الذي هزمه في انتخابات الحزب للرئاسة، ثم أرسله خارج اسرائيل ليكون مندوباً لها في الأمم المتحدة، وبعدها لم يجرؤ أحد أن يرفع رأسه أمامه الى أن جاء جدعون ساعر.
ساعر عمل وزيراً لدى نتنياهو لأكثر من وزارة، ويعود الفضل للأخير بإدخاله للحياة السياسية، لكنه اعتزل مؤقتاً الحياة السياسية عام 2014 ليعود منافساً هذه المرة، ولولا مطالبته للانتخابات قبل أشهر لما جرت هذه الانتخابات، ولكن الحقيقة أن ساعر الذي تلقى هزيمة يوم الخميس ليس بهذا الغباء، فقد توج نفسه المنافس الوحيد والوريث الوحيد لزعامة الليكود، اذ تمكن من تجنيد 28% هم من صوتوا لصالحه، تجنيدهم كتلة كبيرة داخل الليكود من الطبيعي أن ترتفع اذا ما غادر نتنياهو قيادة الحزب.
ساعر ليس أقل تطرفاً من نتنياهو بل ربما أشد، فتصريحاته بهدم قرية الخان الأحمر وحول قطاع غزة تعكس ذلك التطرف، وإن كان نتنياهو ساهم بشدة في صناعة مناخات التطرف داخل الحزب فإن أياً منهما ليس في وارد سوى علاقة تصادمية استيلائية تجاه الفلسطينيين.
نتنياهو يتربع الآن بقوة على زعامة الليكود، ومن غير المتوقع أن يجرب لا ساعر ولا غيره مرة أخرى منافسة جديدة أو مطالبة بانتخابات لرئاسة الحزب. وسيعتبر ساعر آخر الذين تحدوا نتنياهو، سيبقى نتنياهو ومرةً أخرى سيذهب الليكود لانتخابات في الثالث من آذار، وربما تعود إسرائيل لنفس النتائج ونفس الأزمة الدستورية، ولن يذهب نتنياهو إلا بقرار من القضاء ...أو القدر...!!!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية