لم يتسع المقال لأكثر من مفارقتين اثنتين:مفارقة سيداو بالرغم من متابعتي الحثيثة لهذه المسألة لم أتمكن من معرفة الكيفية التي من خلالها تصدرت، او بحثت لنفسها عن مكان الصدارة، في إعلام التواصل الاجتماعي على الأقل، ولم أتوصل الى أي يقين فيما إذا تم افتعال «طفوها» على السطح، او تسللها الى سطح الأحداث كان عن سابق ترصد.


كما لم أتمكن من معرفة ان «فتح» معركة حولها هو مسألة «عفوية» ومرتجلة (فذلك في ظل الكم الهائل من الارتجالية التي تحكم عملنا) أم أن الأمر بفعل فاعل وبتدبير أعد خصيصا للحديث عن يوم الاستقلال ووثيقته/ واليوم العالمي لحقوق الإنسان وغيرها من المناسبات المشابهة، بما في ذلك أيام مناهضة التمييز ومكافحة العنف الأسري وغيرها وغيرها.


وعلى كل حال، وبغض النظر عن النوايا والآليات والتربصات والانفعالات وكل أنواع التسرع، والارتجالات، الساذجة منها والخبيثة، فإن الأمر برمته ينطوي على مفارقة كبيرة، ومن المفترض ان تسترعي الانتباه والحذر والتوقف المسؤول.


نحن في فلسطين، إذا اردنا ان نخرج مرة والى الأبد من ازدواجية التفكير بالجمع ما بين ما لا يمكن جمعه، وبالاستناد الى قواعد ومرتكزات تنفي بعضها الأخرى، وبقينا أسيري الفهم الأحادي لعلاقة الدين بالدولة وبالمجتمع فإن مصيرنا على صعيد الهوية الوطنية الجامعة يمكن ان يصبح في خطر حقيقي.


لا اقصد، ولا يجوز لاحد ان يقصد ان الأمر يتعلق هنا بهذا البند او ذاك، في هذه الاتفاقية الدولية، او تلك، بقدر ما ان القصد هنا هو يتعلق بالهوية الوطنية الجامعة فعلا.


فإذا كان البعض يرى ان «الشريعة» هي أم القوانين، وهي فوق كل القوانين، فإن هذا الأمر ليس فقط يتناقض مع وثيقة الاستقلال، والنظام الأساسي، وإنما يتناقض مع التعددية الثقافية والفكرية والاجتماعية، التي هو عليها المجتمع الفلسطيني منذ آلاف السنين، وهو أمر يتناقض مع كل وثائق فصائل العمل الوطني الفلسطيني المنضوية تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية والتي تعتبر ان النظام السياسي الفلسطيني هو نظام علماني وليس له أي تسمية أخرى بالاستناد الى كل هذه الوثائق.


اسوق لكم ما قاله الشاعر الراحل محمود درويش في رثاء ووداع القائد الأكبر عرفات عند رحيله.


كان عرفات العميق الإيمان بالله وأنبيائه، عميق الإيمان أيضا بالتعددية الدينية والثقافية التي تعطي هذه البلاد خصوصيتها، التعددية المضادة للمفهوم الحصري الإسرائيلي، وكان في بحثه عن الغد في الحاضر يبحث عن نقاط الالتقاء، ويشكل سدا أمام الأصوليات، لم يكن تدينه حائلا دون علمانيته، ولم تكن علمانيته عبئا على تدينه.


فالدين لله والوطن للجميع.


هذه هي الروح التي تمثل الواقع الفلسطيني لأن كل خروج عنها ليس له غير معنى واحد: تجريد الشعب الفلسطيني من شرعية وجوده الوطني .. والكلام ما زال لدرويش.
أضع هذا في ايدي من يؤمنون حقا بهذا المفهوم او من ما زالوا يؤمنون.


حالة الانفلات الهوياتي مفارقة خطيرة والصمت المريب عن هذا الانفلات لا يعني سوى أمر واحد:


مسألة الهوية تتحول على ما يبدو الى مسألة ثانوية عند من يفترض انهم حماتها وحراسها والمدافعون عنها.


والمفارقة ان الحوار حول «سيداو» تجاوز الروح الفلسطينية، وبانفلات لا مثل له من قبل، والصمت سيد الموقف إلا من انبروا للدفاع المستميت عن هذا الانفلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.


ويمكن ان تكون هناك ملاحظات جدية او اقل على «سيداو» ويمكن ان يكون في جذر الملاحظات عليها موقف شرعي، فهذا ليس فيه عيب بحد ذاته، ولكن العيب ان نعمم هذا الانفلات وان نبدأ بتهديد المجتمع، وان ننصب المفهوم الحصري والسلفي لدور الشريعة وكأننا نعيش في القرون الوسطى.


أما المفارقة الثانية فهي قرار بدء التحقيق من المحكمة الجنائية الدولية بعد ثلاثة اشهر من الآن.


من الطبيعي ان يقابل هذا القرار بالترحيب الشديد من قبل القيادة الفلسطينية على مختلف مستوياتها ومن قبل كل فصائل العمل الوطني في منظمة التحرير الفلسطينية ومن قبل عشرات المنظمات الفلسطينية العاملة في مجال القانون وحقوق الإنسان كما يمكن ان نسجل هنا ان كل قوى التقدم والحرية في العالم قد استقبلت هذا القرار بترحاب شديد نظرا لما يمكن ان يكون بداية إنصاف وبعضا من العدل الذي غاب عن التصدي لكل الجرائم التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها إسرائيل.


والمفارقة ليست في موقف حكومة الاحتلال والتي تعرف حق المعرفة النتائج التي يمكن ان تترتب على قرار المحكمة وليست في موقف وزير خارجية الولايات المتحدة الذي اثبت لنا مرة أخرى بأنه ليس متابعا جيدا لاختصاصه كوزير خارجية لأقوى واكبر دولة في العالم، فهذه مفارقات تعودنا عليها من قبل ترامب من قبله.


المفارقة هو ان الذين كانوا «يعيبون علينا» بأننا نقايض تقديم الملفات للمحكمة، ويشهرون في وجوهنا سيوف التحدي بأننا سنرضخ لترامب ولإسرائيل ولن نجرؤ على تقديمها، هؤلاء هم انفسهم لم يعتذروا عن كل ما قالوه وروجوا له وشككوا به، ووصفونا بكل الأوصاف المعتادة.


في حينه، كانت حجتهم لعدم الاعتذار بأن تقديم الملفات مسألة شكلية، وان الملفات لم تقدم إلا بعد ان تأكدت القيادة الفلسطينية، بأن المسألة لا تعدو كونها شكلية، وانها جاءت تحت ضغط الرأي العام، وان الأمور انتهت عند هذا الحد.


بالأمس، اتصلت بهم وطلبت رأيهم في قرار المحكمة وتلوت عليهم الموقف الفلسطيني الشامل، والموقف الإسرائيلي والأميركي بما في ذلك موقف وزير خارجية الولايات المتحدة وكذلك تهديد ترامب بمنع كل قضاة المحكمة من دخول الولايات المتحدة.


لم اسمع اعتذارا ولم أر أي حبات من العرق على وجوههم، وحينها فقط أدركت ان هناك فرقا حقيقيا بين الغباء والعبقرية وهو الفرق الأهم.
اذ ان العبقرية محدودة، وأما الغباء فليس له حدود.
أما حمرة الخجل فهي من شيم النفس الأبية الصادقة فقط.


ومن سوء طالعنا على ما يبدو، او ربما من حسنه أيضاً، ولست اعرف على وجه الدقة، ان فضائيات عربية طويلة وعريضة، تكاد تدسّ انفها في كل شاردة وواردة على طول بلاد العرب وعرضها لم تذكر قرار المحكمة لا بالخير ولا بالشر.


أيكون هؤلاء يا ترى متضامنين مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة ويعتبرون القرار من الأيام السوداء في هذا الإقليم.ولهذا الأمر بالذات سيكون بقية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد