منذ حوالى السنتين والإدارة الأميركية تحشد بكل طاقتها لتطويق فلسطين، أرضا وشعبا وقيادة ، لم يتبق في جعبة هذه الإدارة ما يمكن تصوره ولم تقدم عليه من هدايا وعطايا وانحيازات بالجملة، حصار وراء حصار، ومطاردة مستمرة لحقوق هذا الشعب في كل مكان.
بالتلويح والتلميح، وبالتهديد والوعيد، بالضغوط والابتزازات، عملت هذه الإدارة على كل ما يمكن توظيفه إرضاء لإسرائيل، وتنفيذا لرغباتها وسياساتها و"مصالحها" على حساب إقليم بأكمله، وعلى حساب أمة تمتد على جسد قارتين.
وآخر هذه البدع الأميركية العمل على إصدار قانون يقضي بتحويل الدين اليهودي الى أمة... هكذا وبجرة قلم.
الأمم والشعوب تتكون في عرف ترامب بقرار سياسي، وشطب أمم أخرى وشعوب أخرى أيضا "بقرار" من هذه الإدارة.
لكن ان تبلغ الوقاحة الأميركية حد الضغط على المغرب ومحاولة ابتزاز شعبه وقيادته بوجوب "تطبيع" علاقاته مع إسرائيل، وان يحاول وزير خارجية الولايات المتحدة تصوير الأمر وكأنه "تحصيل حاصل" وان يضرب "موعدا" مع نتنياهو للقاء في الرباط بهدف "تدشين" هذا التطبيع، فهذه تعتبر ليس مجرد وقاحة سياسية، وخروج عن الأصول الدبلوماسية، وإنما هي في الواقع السلوك الاستعلائي الذي يتصف به غلاة وعتاة اليمين الأميركي الذي ينتمي إليه وزير خارجية الولايات المتحدة كواحد من اهم مروجي السياسة الاسرائيلية داخليا، واحد أقطاب المنظرين بضرورة "تجاوز" الشعب الفلسطيني بمنطق القوة والإجبار والحصار الخانق.
لم يفهم وزير خارجية ترامب أن الأمور ليست سائبة من المحيط الى الخليج، وان من بين قادة هذه الأمة من هم على درجة عالية من الاعتزاز بالنفس، والثقة بشعوبهم والقدرة على رد الصاع صاعين.
بمنطق الحكمة والتعقل، وبمنتهى الهدوء رد العاهل المغربي محمد السادس على وزير خارجية الولايات المتحدة بأن ألغى اللقاء وحرمه من دخول القصور الملكية.
ليس هذا فحسب، بل وانبرت كل المؤسسات التشريعية والأهلية للتأكيد على التمسك الكامل بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وبإعادة التأكيد بالثبات على المواقف التي اتخذتها المملكة المغربية لصالح السلام العادل القائم على الشرعية الدولية وعلى القانون الدولي، والتي تحفظ للشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته الوطنية المستقلة على حدود الرابع من حزيران بما فيها القدس الشرقية عاصمة لهذه الدولة المنشودة.
رد الملك بما يليق، وبما يضع الأمور في نصابها، وبما يعيد وزير خارجية الولايات المتحدة ورئيسه ليمشيا على الأرض بدلا من التحليق في سماء الأوهام، وبدلا من غرور القوة.
عاد الوزير الزائر دون ان يتمكن من مقابلة ملك البلاد ودون ان يتمكن من "عزومة" صديقه نتنياهو، ودون ان يدلي بشيء بعد ان فهم الدرس جيدا واستوعب ان المنطقة ليست في جيبه اليمنى، وان عليه ان يفكر مليا في المرات القادمة قبل ان يتجاوز الحدود، او ان يتطاول على ثوابت المملكة.
تخيلوا معي لو ان مثل هذه المواقف كانت هي مواقف أمة بكاملها على المستوى الرسمي، فهل كان ترامب وطواقمه سيستهزئون بشعوبنا وامتنا الى هذه الدرجة من المهانة التي وصلنا إليها؟؟؟
من المؤسف ان يترك ترامب، وان يترك نتنياهو يصوران للعالم وكأن العالم العربي بات جزءا من تحالف دولي جديد يضم إسرائيل، ومن المفجع ان يتشدقا "بإنجاز" هذا الحلف الجديد في إشارة ساطعة الوضوح بأن قضية الشعب الفلسطيني لم تعد قضية وطنية تحررية وإنما تحولت الى مسألة معيشية.
ومن المؤسف والمؤلم ان يطل علينا بين الحين والآخر احد أعضاء طاقم ترامب المقرب ليعلن ان موعد إعلان الصفقة بات وشيكا، او ان المسألة برمتها ستؤجل الى ما بعد الانتخابات الاسرائيلية الثانية، او الثالثة، او الى ما بعد الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني من العام القادم.
نعم، مؤسف ومؤلم ان يتم استغفال امتنا وشعوبنا بهذه الطريقة، وكأن ما سيعلن في هذه "الصفقة" سيكون بعد كل ما طبق على الأرض، وما يطبق منها يوميا بدعم من الإدارة الأميركية سيكون اكثر من حكم ذاتي مقلص على التجمعات الفلسطينية في منطقتي (أ) و(ب) وشراذم صغيرة من منطقة (ج) شريطة ان ينتهي الصراع مقابل هذا الحكم الذاتي الذي سيتم "تمويله" على مدى سنوات قادمة من قبل أموال دولية معظمها عربية.
من المدهش حقا، ان يتصور أعضاء الطاقم المتصهين ان العالم العربي على احر من الجمر لمعرفة ما تبقى من هذه الصفقة. وان العالم العربي وربما الشعب الفلسطيني سيتلقفون العرض الأميركي "السخي الى أبعد حدود السخاء"، وسيطيرون فرحا بالإعلان عنه.
على كل حال، وحتى لا نجلد العرب فقط، فإنهم (الطواقم) ما كانوا ليصلوا الى هذا الصلف لولا ان الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها قد تحولت من مشروع للتحرر الوطني نحو مشروع للسلطة السياسية، تحت حراب الاحتلال، وحصاره واختارت الصراع على هذه السلطة بدلا من الصراع مع هذا الاحتلال.
ولولا ان النظام في العالم العربي كله بدلا من الصراع على البقاء بأي ثمن قد اختار الصراع على الشرعية والديمقراطية والتنمية الجادة.
صحيح ان ترامب يهدي لإسرائيل كل هذا الدعم، وينتظر منها ان تتجند بالكامل لصالح إعادة انتخابه في العام القادم، لكن الصحيح أيضا ان العالم العربي ليس اكثر من مجرد لعبة او ورقة من أوراق هذا المستوى من تبادل الهدايا بين الطرفين.
المهم، ان المغرب قد كسر الحصار، وأوصل الرسالة بكل ثقة ووقار وحنكة واقتدار.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية