من الأشياء القليلة التي لا يمكن للذاكرة أن تغفل عنها، أو أن تمر دون توقف الانتفاضة الأولى وما شكلته من مرحلة مهمة في التاريخ الوطني الحديث أو حتى في التاريخ الشخصي لجيل كامل من الشبان والشابات الذين غزا الشيب اليوم رؤوسهم أمثالي. الانتفاضة الأولى لم تكن حدثاً فريداً، على فرادتها، لكنها شكلت انعطافة حادة ومهمة في التاريخ الوطني باتت تؤرخ للأشياء وفق تقويم خاص بها. الحديث البسيط الذي فجر انتفاضة عارمة، والانتفاضة البسيطة أيضاً قادت إلى تحولات مهولة غيرت الكثير من معالم الصراع والمؤسسة. نتائج يختلف الناس في تقييمها وفي الموقف منها، لكنها لم تكن عابرة ولم تزل.


في ذلك الصباح الذي يصادف اليوم الإثنين كان الغضب ببطء ولكن بإصرار يطفو على وجه التلاميذ والمدرسين في مدارس وكالة الغوث بالمخيم وفي المدرسة الثانوية التي سميت "الفالوجا" تخليداً لذكرى صمود الزعيم جمال عبد الناصر في الحصار الشهير هناك خلال مجازر النكبة . في الليلة الفائتة عمت التظاهرات والمواجهات المخيم والنواحي بعد دفن الشهداء الذين سقطوا في حادث الدهس الشهير الذي كان الشرارة التي أوقدت الغضب الذي عمّ مثل النار في الهشيم. لم يكن أحد يتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد، لكن سمة التاريخ أو على الأقل بعض الدروس المتعلمة منه تقول: إن الكثير من الأحداث الكبرى تنتج عن تفاصيل لا يتم تقدير عواقبها بشكل جيد. وربما في الكثير من الأحيان لا يتم التفكير في العواقب من الأساس. لذا وفي ذلك الصباح كأننا لم نغف، صحونا ونحن نفكر في ردة الفعل الطبيعية والعفوية التي قام بها الجميع ونحن نقف قرب شواهد المقبرة الكبيرة واليتيمة في المخيم، حيث يرقد الحالمون بالعودة بعد أن أخرجوا قهراً من مدنهم وقراهم. المقابر من علامات المخيم الفارقة، تعطي صفة للأماكن قربها ويستدل عليها من مدى هذا القرب أو البعد. وبشكل عام فإن المقبرة كانت منذ اللحظة الأولى علامة من علامات النكبة وحياة اللجوء، إما بسبب من تركوا يرقدون هناك في موطن الأحلام بسلام وأمان ولم يذوقوا ويلات وحسرات التهجير، أو بسبب من رقد في أرض غير مرتع طفولته. ومن عاش أو ما زال يعيش في المخيم يدرك هذا جيداً. لذا كان التفكير في كل الأوديسة العجيبة التي مر بها الفلسطيني منذ قرر العالم صلبه بحجة إقامة وطن للغرباء يتفاعل في عقول الصغار والكبار. لم يكن أحد يخطط ولم يكن أحد يفكر في كل ذلك. كانت الشجون الفردية والأفكار الشخصية كأنها تتفاعل في غيمة بعيدة نسيجها من جين وراثي جماعي، أيضاً لا يعرف أحد كنهه لكنه مثل كل الأشياء التي تصنع شمولية ما لا يستدل عليها إلا بالأثر. بالطبع يسهل بعد مضي ثلاثة عقود وعامين الادعاء بغير ذلك، وربما يطيب المشي بثقة على حبال واهية من المزاعم. لكن الحقيقة غير ذلك.


عموماً كثرت الدراسات والمقالات والتوصيفات وتم الاستعانة بالكثير من النظريات في محاولة لفهم ما جرى. في ذلك تم الاستعانة بالاقتصاد وعلم الاجتماع والدراسات النفسية بجانب الإشارة إلى الهبات السابقة في تاريخ شعبنا منذ فجر المشروع الكولونيالي الإحلالي، لكن بالتأكيد لم يكن كل ذلك إلا من باب فهم معقد لحدث بسيط. ومن باب ذلك تم لَي عنق الحقائق والاسترشاد بالكثير من الوقائع الجديدة للدلالة على أن ما جرى تم وفق نسق ما يرغب المحللون والساسة سواء في أن يكون جزءاً من منظومة متكاملة تتفق مع ما يرونه.
هذه العفوية التي يجب التأكيد عليها هي ما يجب تذكره حين نتأمل الانتفاضة الأولى وكيف شكلت علامة فارقة مهمة في الوعي والممارسة والنتائج. وحين يقف المرء على ما حدث يدرك أن مثل هذه الأحداث العفوية ليست بأكثر من قدر، ربما قدر الشعوب الذي يستجيب وفق قصيدة أبي القاسم الشابي الشهيرة. عموماً من المؤكد أن الشاب حاتم السيسي ابن حارتنا حين يقف معنا قرب المقبرة وبعد ذلك ينشغل بالليلة المشتعلة التي انتفض فيها المخيم على الجنود والتف يطوق مقر الجيش في قلب المخيم، لم يكن يعرف أنه سيكون أحد سكان المقبرة في اليوم التالي حين تخرج المسيرات من كل مدارس المخيم بعفوية الغضب المشتعل في النفوس وتندلع المواجهات في ساحة المخيم الأساسية التي كانت تعرف باسم "السوافي"، حيث سيسقط حاتم مضجراً بدمائه ويصاب العشرات من أبناء المخيم ونسوته في واحدة من أبرز ملاحم الانتفاضة وأول معاركها. لم يكن أحد يعرف أن ما يجري اسمه انتفاضة. ولم تكن الكلمة جزءاً من القاموس المتداول في أي حال. كان أمراً طبيعياً، مر شبيه له ومتشابهات في الماضي، مثلاً عام 1983 حين هب المخيم مثل نيران في غابة بوجه الجنود واستشهد فتي صغير اسمه سهيل غبن، وانتهت تلك المتشابهات دون أن تستمر وتنتقل إلى أماكن أخرى. ما جري في ذلك اليوم قبل اثنين وثلاثين عاماً كان مختلفاً بكل المقاييس.


يومها بت مع أخي نعيم خارج المخيم لأن الجيش فرض حظراً شاملاً للتجوال وأخذ يعتقل كل الشبان في المخيم. ولم يكن النهار قد مضى حتى كانت الأحداث تعم كل فلسطين في شيء بات اسمه بعفوية مثل تلك التي اندلع بها: الانتفاضة.


دروس كثيرة يكثر الحديث عنها وخلاصات أكثر يطيب تذكرها ربما مثل الحديث عن الشيء دون تذكر جوهره، ويظل الشيء الأساسي غائباً حتى حين يتم الحديث عن استعادة التجربة أو تقليدها وهو أمر صعب. الكثير من الجهد بذل والكثير من الكتابات تم إنجازها، وأظن أن الانتفاضة الأولى تستحق أن يعاد تسجيلها من كل الجوانب، خاصة بأقلام من عاشوها وكانوا جمراً من جمارها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد