لا يمكن أن تمر ذكرى ياسر عرفات دون أن يقف المرء طويلاً أمام سيرة الرجل الكبير الذي نجح في أن يكون رمزاً للوطنية الفلسطينية ويكتب مع رفاق دربه من آباء الحركة الوطنية معالم طريق التحرر الوطني رغم الصعوبات والتحديات الكبيرة التي واجهتهم. الجيل الذي اكتوى بنيران النكبة وذاق مرارة اللجوء والتشرد والبحث عن خيمة حيث لا تفرق خيمة عن أخرى، الجيل الذي وجد أن عليه أن يبحث عن الخلاص الجماعي حيث لا فائدة ترجى من الخلاص الفردي، الجيل الذي سيقدر له أن يحمل أعباء مرحلة ما بعد النكبة من أجل الوصول إلى البيت.
عرفات من هذا الجيل المؤسس، لكن الذي قدر له أن يكون أكثر معاناة في تحمل المسؤولية وأكثر التزاماً بها، كان علامة فارقة في التاريخ الوطني الفلسطيني وحين مراجعة مسيرة الحركة الوطنية ثمة ثابت وحيد لا يمكن تجاوزه: ياسر عرفات. لا يمكن الحديث عن التاريخ الفلسطيني دون الوقوف طويلاً عند المكانة الكبيرة التي كانت لعرفات أو الدور العظيم الذي قام به. دور لا يمكن تخيل مسيرة الكفاح التحرري دون التركيز عليه. مفردات عرفات وتصرفاته وردات فعله كما عاداته اليومية وسلوكه السياسي ومواقفه الوطنية باتت السمات الأكثر بروزاً في الحركة الوطنية الفلسطينية. ولم يكن غريباً أن يقترن اسم الرجل باسم فلسطين عند كل شعوب العالم وترتبط كوفيته بخارطتها. وربما كما حدث مع كثيرين منا فإنه قد يصعب على مواطن دولة ما تذكر فلسطين إلا إذا ألمحت له بأنها بلاد ياسر عرفات. وكان كثير منا يقول: إنه من بلاد ياسر عرفات. الآباء يسمون البلاد بوجودهم دون رغبة منهم ولكن هكذا تسير الحياة، خاصة حين يقدم هؤلاء الآباء حياتهم نذوراً للوطن. وعرفات الذي حمل البندقية فدائياً لم يكن يخطر بباله يوماً أن يكون رئيساً أو زعيماً، وهكذا كان فدائياً خالصاً، وربما كان سيستشهد مثلما استشهد رفاق دربه من الآباء المؤسسين سواء في حركة «فتح» أو التنظيمات المختلفة. لكن السمات العرفاتية التي ميزت شخصية الرجل هي من صنعت تلك المكانة العجيبة والخالدة له في قلوب أبناء شعبه ومناصري الحق في العالم.
كثيرون يحبون أن يطلق عليهم «عرفاتيين» أو يصفون نفسهم كذلك، فيما هم أبعد كل البعد عن العرفاتية التي يجهلون كنهها وسرها. العرفاتية التي لا تعني شيئاً أكثر من الانتماء الصافي لفلسطين دون أي زوائد أو شوائب حيث لا يعلو شيء عليها. وفي عميق ذلك فإن هذه هي فكرة «فتح» الأولى التي أطلقها الختيار مع رفاق دربه. فالعرفاتية ليست صفة تريد أن تلج فيها مداخل مغلقة أو تصطف في جوانب للتباين عن الآخرين، صدقاً أو ادعاءً، بل هي أن تلتزم بمقاصد شعبك فقط ولا تعرف غير ذلك وإن كان في ذلك انتقاص من نفسك ومصالحك ومصالح تنظيمك. فالرجل الذي قرر بكبرياء وشموخ وبتواضع أيضاً أن يختار الشهادة على أن يساوم على حقوق شعبه لم يفعل ذلك حتى يقال إنه فعل، بل فعله عن قناعة. إنه ذات الفعل الذي كان سيقوم به في صباه لو تطلب الأمر ذلك حين بدت فكرة «العاصفة» درباً من الجنون. فعرفات الذي يعرف أن التاريخ لا يخلد الجبناء ولا ينصف المتخاذلين لم يكن يفكر إلا في حماية شعبه وقضيته. القضية التي قرر عرفات منذ حمل سلاح الثورة أن تظل على الطاولة وألا تختفي في أدراج المنظمات الدولية، ولم يفكر في كيف يشفق العالم على الفلسطيني، بل كيف يحسبون حسابه لأنه في عالم الغاب لا غلبة للضعيف. الفلسطيني الذي شردوه وطردوه من أرضه وقتلوه وحرق عليه بيته، ونكثوا زرعه واقتلعوا شجره، الفلسطيني الذي كان يجب أن يتحول لحكاية أخرى من الماضي كان يجب أن ينتهي ويندثر وفي أحسن الحالات أن يتكيف مع محيطه الجديد ويذوب. لكن هذا لم يحدث. لأن أساس الفكرة الوطنية كما حملها عرفات أن تظل فلسطين باقية. بقاء فلسطين وشعبها بحد ذاته نفي وتفنيد وإفشال لكل مخططات أعداء فلسطين. وهذا هو جوهر أن تكون عرفاتياً، أن تعرف أن فلسطين أبقى وأسمى، وإن هذا لا يتحقق عبر التفاصيل الصغيرة والخلاف المقيت عليها، لذا كان عرفات يأتي على نفسه وعلى ما قد يبدو أنه مساس بكرامته في سبيل أن تظل فلسطين مرفوعة الرأس.
الحديث عن العرفاتية يبدو مهماً في فهم مآلات الواقع الفلسطيني والمسارات الإجبارية التي تسير فيها القضية الوطنية. لم يكن عرفات قديساً ولا زاهداً ولا راهباً، لكنه حين يتعلق الأمر بفلسطين يصبح كل هؤلاء، لكن قبل شيء كان فلسطينياً خالصاً وبامتياز، وكان صادقاً فيما يفعل وفيما يقول، قد نغضب والبعض قد يسب ويلعن ويختلف ويفترق، ولكن حين يتعلق الأمر بجوهر المصلحة الوطنية فإن الجميع كان يصمت لأن عرفات وحده البوصلة. كان يعرف ويحدس جيداً الطريق السليم لحماية المصلحة الوطنية. لذا لا غرو أنه حتى أشد خصومه في الأوقات السابقة حين يراجعون أنفسهم يشعرون بقليل من الخجل أو كثيره.
قد يشعر المرء بالألم حين يرى من يلتصق بعرفات ممن لا علاقة له بوطنيته الصافية، ويشعر بألم أشد وهو يتأمل كيف يربط الكثيرون أنفسهم به، لكنه في ذات الوقت يصبح أكثر تمسكاً بالفكرة الخالدة التي أشعل ضوءها البسيط، لكن الذي سيقدر له أن يملأ الدنيا ويضيء فلسطين حتى التحرير. عرفات لم يكن عابراً، وكذلك العرفاتية ليست سطحية بل هي عمق الفهم الوطني لمقاصد النضال التحرري وهي قلب كل الفكرة الوطنية وفي القلب منها الفتحاوية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد