من أطرف ما نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي، أن إيران احتاجت إلى أربعين عاماً كي تصدّر «الثورة» إلى العراق، في حين أن العراق قد احتاج إلى أربعين يوماً فقط لكي يصدّر ثورته إلى إيران.
هناك شيء من الجد في كل هزل أو سخرية، كما يقول أحد الأمثال الشعبية الشهيرة.
حتى الآن تبدو الاحتجاجات شاملة وعامة وممتدة. رفع أسعار البنزين بصورة كبيرة ومباغتة ليس سوى اللحظة المواتية لانفجار هذه الاحتجاجات التي كانت تختمر في «باطن» المجتمع الإيراني، وهي ليست سوى القشة التي قصمت ظهر البعير.
الأزمة الاقتصادية المترافقة مع الاحتقان السياسي والاختناق الاجتماعي والثقافي في البلاد كانت تنتظر هذه اللحظة لكي تقدح شرارة هذا الحريق في إيران.
لم تتأخر المؤسسة الدينية في إيران ولا للحظة واحدة عن إعلانها تأييد رفع الأسعار، ولم تتردد ولا للحظة واحدة في وصف القائمين على هذه الاحتجاجات بالعملاء.
نسخة طبق الأصل عن حالة الانفكاك عن الواقع في الكثير الكثير من حالات الاحتجاجات التي جرت في عدة بلدان عربية، وأدى وصفها بالطابور الخامس والتصدي لها وقمعها إلى تدمير بلاد بكاملها، وإلى ويلات ما زالت تكتوي بها هذه البلدان.
هذه الاحتجاجات التي ما زالت في بداياتها الأولى، وهي مرشحة للامتدادات الكبيرة والتعمق والانتشار والتجذر. الاحتجاجات لم تتردد، بالمقابل منذ لحظة اندلاعها الأولى ذهبت إلى أبعد مما ذهبت إليه كل الهبات السابقة، وإلى رأس الهرم السياسي، وقمة المؤسسة الدينية المهيمنة مباشرة ودون تردد أو خوف أو مواربة.
المؤكد حتى الآن أن رفع أسعار البنزين ما كان ليؤخذ كقرار لولا أن ثمة عوامل اقتصادية «خانقة» قد أملته في ضوء عسكرة الاقتصاد الإيراني، وتوجيه موارده الرئيسية نحو التمدد الإقليمي، وبناء الترسانات العسكرية المتطورة، وبناء ميليشيات مسلحة ومدربة ومجهزة تعتاش بمئات الآلاف على الدعم المباشر من إيران.
إذ يبدو أن «العقوبات» على إيران بدأت تأخذ طريقها إلى موازنات الدولة، ومواردها الرئيسية، كما أن التوغل في سياسات العسكرة رفع كلفة «الدور الإقليمي» إلى معدلات لم يعد بمقدور الاقتصاد الإيراني تحملها من دون اللجوء إلى آخر «تومان» في جيوب الفقراء في إيران.
كان بالإمكان أن يتم الرفع تدريجياً، وكان بالإمكان اللجوء إلى تقليص موازنات عسكرية كثيرة لا تحتاجها إيران بصورة راهنة وملحّة، وكان بالإمكان إحداث الكثير من المناقلات في بنود الصرف الإيراني بدلاً من تحميل فقراء إيران عبء سياسات تصدير الثورة والتي هي الوجه الحقيقي المباشر للتوسعية الإيرانية والبحث عن النفوذ بأي ثمن.
لكن «الدولة» الإيرانية لا تملك من إرادتها الشيء الكثير، وهي محكومة بالسقف الديني الممثل في «مرشد الثورة»، ولن تتمكن من «التعقل»، وهي أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما أن تتمرد على قرار «مرشد الثورة»، والتعامل «بمرونة» مع الاحتجاجات والبحث عن حلول وسط وترقيعية مؤقتاً على الأقل. وإما أن تنفّذ إستراتيجية «مرشد الثورة» والذهاب مباشرة إلى القمع بشراسة، على اعتبار أن من يقف وراء هذه الاحتجاجات هو «الشيطان» الأكبر.
الحقيقة أن إيران على فوهة بركان سينجم عنه لا محالة زلزال سياسي كبير، لن يهدأ قبل إحداث تحولات كبيرة، وغير مسبوقة على ما يبدو حتى الآن.
الشعوب الإيرانية بعد أربعين عاماً من الحديث عن «الثورة» لم تجنِ غير خيبات الأمل في التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية، ولم تتمكن هذه الشعوب من التصدي لمشكلات الفقر والبطالة والحرمان في بلد من أغنى بلدان الإقليم بالموارد الطائلة والهائلة.
ولم تر الشعوب الإيرانية أي تقدم يُذكر في مسار تصدير الثورة و»تمددها» إلى بلدان الجوار.
لم يكن هناك من تقدم يُذكر في كبح معدلات الفقر، وفي وقف مسار التدهور المستمر لمستوى حياة المواطنين.
لم يتم حل المسألة القومية، ولم تتمكن «الثورة» بعد أربعين عاماً من «هضم» و»استيعاب» الحقوق القومية للشعوب الإيرانية.
ما زالت المسألة الكردية في إيران على صفيح ساخن، وفي الأحواز يعاني العرب من قمع رهيب وحتى البلوش أنفسهم ليسوا خارج هذه المعادلة.
كما أن هناك ما يكفي من الدلائل على قمع الأقليات الدينية، والتصرف حيالها باستعلاء واستهتار كامل.
وتحول الدور الإقليمي لإيران إلى معولٍ للإفقار المنظم للشعوب الإيرانية، وهي لم تفهم، ولن تتفهم، على ما يبدو «ضرورة» هذا النفوذ والأهمية التي ينطوي عليها.
ليس هذا فقط فإن «الانتفاض» من قبل شعوب المنطقة ضد هذا الدور، وضد هذا النفوذ بالذات، زاد وفاقم من أزمة السياسة الإيرانية، وشجع الداخل الإيراني على التلاقي مع انتفاضة العراق وانتفاضة لبنان بقدر ما يتعلق الأمر بالنفوذ الإيراني.
لم يعد للمذهبية السياسية من أمل بالعيش الآمن، تماماً كما لم يعد للطائفية السياسية من أمل في العيش والبقاء. لم يعد ممكناً تغليف الفساد والاستبداد بشعارات «الثورة»، طالما أن «الثورة» نفسها تحولت إلى سبب للظلم والإفقار والقمع والانغلاق.
لم يعد هناك من محرّمات ولا مسلّمات طالما أن السياسات التي تتخذها حكومات المنطقة هي سياسات قائمة على الإفقار والنهب المنظم، وطالما أن المواطن لا يجني من جرائها غير خيبات الأمل والحرمان.
إيران ليست استثناءً في هذا الواقع، بل هي في الحقيقة أحد النماذج الخاصة في هذا السياق.
ولأن القمع كان دائماً هو مصير كل الاحتجاجات السابقة، ولأن الضرب بيدٍ من حديد كان هو الأسلوب الذي تعاملت به إيران مع مطالب الناس في الماضي، فإن الاحتجاجات لن تكون سلمية تماماً ولن تخلو أبداً من مظاهر عنيفة أحياناً.
وهذا هو الفرق الوحيد ربما بين ما جرى ويجري في المنطقة العربية الآن، وبين ما جرى حتى الآن ويجري وسيجري في إيران.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية