منذ الآن نتنياهو يُحضّر نفسه لعشرات المرات من التصفيق المتواصل ـ قد يصل العدد إلى أربعين مرة ـ ويُحضّر نفسه بالطبع لعدة مرات من الوقوف الكامل لكامل الأعضاء ـ قد يصل الوقوف إلى سبع أو ثماني مرات ـ وهو منذ الآن «يدرس» بينه وبين نفسه لغة الجسد المناسبة لهذا القدر من «التبجيل».
ومنذ الآن يكاد نتنياهو يحفظ عن ظهر قلب الجمل التي سيركّز عليها في مجال ما تمثله إيران من «تهديد» على أمن إسرائيل وأمن العالم، ما يشكله امتلاك إيران للسلاح النووي من خطر وجودي على الدولة الإسرائيلية.
وقبل ذلك يعرف نتنياهو الذي سيقوله عن خطر «الارهاب» الذي يجتاح المنطقة وما «يمثله» هذا الارهاب من خطر وجودي إضافي على إسرائيل، على الرغم من حالة الانهيار التي يراها من حوله. فلبنان مشلول والعراق غارقة في الدم، وسورية مدمرة، واليمن آيل للسقوط.
أما مصر فقد أجبرت على مواجهة شاملة مع الارهاب القادم من الداخل ومن خلف الحدود، أما ليبيا فموعدها مع إعادة بناء الدولة الوطنية مؤجل إلى ما بعد أكوام وأكوام من الدمار والموت.
حتى تونس لن تسلم من التطرف والارهاب، ويتم جرّ كل دول المنطقة إلى معادلة الارهاب ومكافحته في عملية استنزاف لم يسبق لها مثيل في كل التاريخ المعاصر للبشرية كلها.
وهنا لن ينسى الحديث عن «الارهاب» الفلسطيني القادم من غزة ومن القيادة الفلسطينية التي توجهت إلى الأمم المتحدة وإلى محكمة الجنايات الدولية، وأغلب الظن أن نتنياهو سيجد في قرار المحكمة الأميركية الأخيرة فرصة للتغطية على كل جرائمه ضد فلسطين أرضاً وشعباً وحقوقاً، فلسطين المنكوبة والمحاصرة والمسروقة والمتروكة لقدرها الإسرائيلي الذي يفيض عنصرية وقتلاً ونهباً وتهويداً واستيطاناً.
سيستفيض نتنياهو في الحديث عن «واحة» الديمقراطية في هذا الإقليم الذي يرفع لواء الموت في كل زاوية وركن من أركان هذا العالم الكبير الذي «كان» اسمه الوطن العربي.
نتنياهو كلامه إلى أعضاء الكونغرس، وأما عينه فعلى الناخب الإسرائيلي الذي بات متشككاً في قدرة نتنياهو على جرّ الجمهور إلى ميدان «المخاطر» الأمنية، وعلى قدرة نتنياهو على الهروب الآمن الى ميدان الأمن ومخاوف التهديدات والقفز على مشكلات الواقع الإسرائيلي في كل المجالات.
يراهن نتنياهو على هذا الخطاب كطوق نجاة وكخشبة خلاص قبل الغرق الذي بات يؤرقه ويقضّ كل مضاجعه.
لم يكن نتنياهو ليصرّ على الذهاب إلى هناك لإلقاء هذا الخطاب لولا أنه لم يعد يملك من الأوراق الانتخابية ما تطمئنه على حالته الانتخابية، ولولا أنه بات على «قناعة» بأن احتمالات النجاح تساوي احتمالات الفشل.
لم يكن تنياهو ليقامر بهذه الورقة لولا أنه بات يعرف وبات يؤمن أن زمن الانتصارات السهلة في إسرائيل ولّى إلى غير رجعة، وزمن الأكاذيب المنطلية أصبح حبلها قصيرا لا يتجاوز الشبر الواحد.
لا يملك نتنياهو غير «ملف» الأمن وليس لديه ما يقوله خارج نطاق هذا الملف.
مشكلة نتنياهو على صعيد هذا الملف تحديداً هو أنه لا يمتلك حرفاً واحداً إضافياً على ما كان يردده حول الأمن ليس في الآونة الأخيرة فقط وإنما على مدار السنوات ربما يزيد على عقد كامل من الزمن.
هروب نتنياهو إلى ملفّ الأمن كان سيلقى آذاناً صاغية لو أن الولايات المتحدة تحمّست معه من على نفس الأرضية والمنطلق.
وهروب نتنياهو كان يمكن أن يلقى دعماً مطلقاً لو أن الفلسطينيين «انجروا» إلى ميدان العنف.
أما الحروب التي شنها نتنياهو على غزة فلم تنفعه كثيراً ولم تقدم له الدعم الذي راهن عليه، إما بسبب عجزه عن تحقيق أهداف ملموسة وإما بسبب الطبيعة الاستعراضية والانتخابية لهذه الحروب، أو ربما بسبب أن الطابع الأمني (الخطر الذي يواجه إسرائيل) ليس مرئياً ومحدقاً كما كان يحاول نتنياهو تصويره وتسويقه إلى الداخل الإسرائيلي.
الملف الأمني ملف مزعوم أكثر مما هو واقع، وأكذوبة السلاح النووي الإيراني لم تعد تحتل المكانة التي كانت تحتلها قبل ثلاث أو أربع سنوات مضت، ومحاولة «استبعاد» الحل على الجهة الفلسطينية لم تنجح وتحولت إسرائيل إلى دولة منبوذة، وهي تصطدم اليوم مع معظم مكونات هذا العالم، والرخاء الذي طالما تشدق به نتنياهو يبدو أنه يعيش مرحلة أفول واحتضار باعتراف ضمني أو معلن من أناس كانوا إلى وقت قريب يحاولون التلطي وراء هذا «الرخاء».
خطاب نتنياهو في الكونغرس هو المؤشر الأساس على ضعفه وليس على قوته، وهو مؤشر إضافي على الإفلاس وليس على «التحدي»، وهو قبل كل ذلك مؤشر على رعونة وليس على أي شكل من أشكال البطولة.
سيدفع نتنياهو ثمن هذه الرعونة من لحمه الحي، وجلسة الكونغرس التي سيتخللها الكثير من مظاهر الاحتفالية و»الاحتفاء» تصفيقاً ووقوفاً سيندثر أثرها «الإعلامي» عند أول تصريح رسمي أميركي فيه الحد الأدنى من الشعور بالكرامة، والحد المتوقع من العقاب الممكن.
وكما سقط زعماء كثيرون في هذه المنطقة بسبب انعزالهم عن الواقع ونكرانه، فإن نتنياهو ـ على ما أرى ـ سيكون النموذج الذي يؤكد على القاعدة وليس الاستثناء الذي يراهن عليه ويقامر من أجله.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية