الكلمات الأكثر تردداً في القاموس السياسي الفلسطيني، منذ أكثر من عقد، هي المصالحة والانتخابات. ومع مرور الزمن أصبحت تلك الكلمات باهتة أكثر، وخف وقعها على أذن الفلسطيني، إذ تخفت رويداً رويداً وتصبح كما السراب الذي يتباعد أكثر. تتردد تلك المصطلحات وسط يأس ولامبالاة ممن يسمعونها أو سمعوها إلى حد التخمة وحفظوها عن ظهر قلب، وهم يدركون تماماً أن الزمن الذي مضى لن يعود، وأن الانتخابات أصبحت واحدة من المستحيلات الفلسطينية الكثيرة.


الحقيقة أنه كلما يتباعد الحدث أكثر ربما يصبح أكثر وضوحاً، لأن الالتباس الحاصل في الحالة الفلسطينية أكبر من أن يحل ويضع كل مسألة فلسطينية أمام ثنائية شديدة التعقيد. فالسرعة المكللة بالعجز وسيل المعلومات يجب ألا يعفيا من السؤال الجوهري، والذي تنبع منه كل الالتباسات، وهو أن الانتخابات تحدث لدى الدول المستقلة، أما حركات التحرر فلا تجري فيها انتخابات، فهل نحن دولة أم حركة تحرر؟ وحتى نجيب عن هذا السؤال - وهو ضرورة كبرى - يمكن لنا أن نجد إجابات لأسئلة أخرى.


وفي كل الظروف، نحن أمام شعب قرر أن يحكم نفسه بغض النظر إن كان الأمر قراره أو باتفاق مع أشد خصومه ومحتليه، لكننا أمام حالة وإن كانت فريدة حكم الفلسطيني لشعبه تحت الاحتلال وذلك لا يتم إلا بانتخابات. كذا تعارف الفلسطينيون أو توافق الفلسطينيون وإن تعثروا في تطبيق التوافق مع أول تجربة تعددية فارتدوا للوراء، هل بسبب جذور وثقافة الشرق الإقصائية، أم بسبب التباس الحالة ما بين الدولة والثورة، أم بسبب الاثنتين معاً لتنتجا حالة في غاية الغرابة؟


في كل أوراق المصالحة التي علاها الغبار في العواصم، يرد الاتفاق حول إجراء الانتخابات، ومع كل حكومة كان يكلفها الرئيس كانت تتسلم مهمة التحضير للانتخابات في كتاب التكليف، ومع كل تصريح لمسؤول في الخلاف وفي الوفاق، في السلم وفي الحرب، كانت الانتخابات حاضرة. وفي وسط كل هذا الضجيج الكبير كان الأمر أشبه بجعجعة ولا طحين ولا غبار حتى تنتجه حالة تكلست ويقوم الإسرائيلي بحراسة هذا التكلس خوفاً من إفاقة ما.


قبل أسبوع، قدمت ثمانية فصائل مقترحاً للمصالحة لم يخل من تكرار الحديث عن الانتخابات كعادة الأشياء وبجدول زمني محدد «منتصف 2020»، رغم أنها أكدت على اتفاقيات المصالحة السابقة التي أكدت على الانتخابات، وبالمقابل من على منصة الأمم المتحدة أعلن الرئيس نيته إصدار مرسوم بإجراء الانتخابات بعد عودته للوطن، وإثر ذلك أعلن رئيس الوزراء أن الحكومة ستبدأ بالتحضير للانتخابات إذ بدا متحمساً للفكرة رغم أنها كانت البند الثاني في كتاب تكليفه رئاسة الحكومة، وظهر أنه يأخذ الأمر بجدية أكثر هذه المرة، ولا نعرف إن كان يعرف مثلنا أن إجراء الانتخابات بات أمراً بالغ الصعوبة.


هناك شك إن كانت حركة «فتح» فعلاً تريد انتخابات، أما حركة « حماس »، التي لم تسمح بتجربة انتخابية واحدة في غزة ، بات من الصعب أن نتصور أنها فعلاً تريد إجراء انتخابات. فتجربة البلديات وحدها كانت تشي بمنطق التفكير لديها، أما الإسرائيلي على الجانب الآخر، والذي يقف بكل ما يملك من قوة ومال وعلاقات إقليمية يستدعي منها ما يشاء لتأبيد الوضع القائم لاستمرار فصل غزة، فهو الممانع الأكبر لأي تغيير في البيئة السياسية الفلسطينية التي باتت كما كان يحلم أو كما كان يخطط.


لم تتفق الفصائل على النسبية التي ما زالت محل خلاف، وهذه ليست العقدة الأساسية، لكنها تصلح مثالاً لتأكيد الأزمة. وما بين النسبي الكامل الذي رفضته «فتح» عام 2005 حين كانت سيدة المجلس التشريعي بلا منافس تُفصّل كما تريد، وحينها وقف في وجه المشروع، الذي كان سيحمينا جميعاً من كل هذا الخراب، بعض الذين تغلبت مصالحهم الخاصة على مصلحة «فتح» والوطن؛ لأنهم كانوا يضمنون لأنفسهم نجاحاً في دوائر صغيرة فأسقطونا وباتوا الآن يعضون أصابعهم بعد فوات الأوان. فالسياسة ليست لعبة عابثة ولا تحمي قصيري النظر.
أما إجراء الانتخابات قبل الاتفاق والمصالحة، وحكم كل جهة لا تثق بالأخرى لمنطقة ما، والتسليم بالنتائج، فذلك عبث. من اتهامات وقبول للنتيجة، وفي ظل غياب الثقة وانعدام التعاون، فإن إجراء الانتخابات مسألة لا يمكن تصورها، ولدينا من التجارب ما لا يستدعي سردها، فكل مواطن لديه من الشواهد ما يكفي لترسيخ عبثية التجربة وتشوهها قبل أن تكتمل. وإذا كانت تجربة السلطة يمكن اعتبارها فترة التدريب على الحكم، فقد رسبنا في التدريب. صحيح أنه لا يمكن استبعاد الإسرائيلي من كل ما حدث ويحدث، ولكننا لسنا بتلك البراءة عندما يتعلق الأمر بالحكم، نبدو شديدي الدهاء والذكاء الذي نستخدمه ضدنا، فعندما يتعلق الأمر بالسلطة تختلف الحسابات.


أما إذا تجاوزنا كل ذلك البعد الداخلي وحقول الألغام التي زرعناها بأنفسنا لأنفسنا، وافترضنا أننا فككناها واحدة تلو الأخرى، وأردنا قطع الطريق نحو الضفة الأخرى، فسنرى الإسرائيلي بكل عتاده يقف ليمنعنا من إجرائها في القدس وهي روح القضية، ولن يوافق أي وطني على إجراء انتخابات من دون القدس؛ لأن ذلك يعني الاستعداد للتضحية بها والتنازل عنها، وتلك أكبر الكبائر الوطنية ولن يقبل أي فلسطيني بإجرائها. ولنا أن نتصور أن حكومة يمين، بعد كل ما حدث من إغلاق مؤسسات واستيطان وتهويد وسيطرة واعتراف أميركي، تسمح بانتخابات هناك. وطالما أنه لا انتخابات في القدس فلا انتخابات إذاً. إسرائيل سمحت بها فقط عام 2006؛ عندما كانت تعرف مسبقاً أن النتائج ستؤدي إلى انقسام بين الفلسطينيين، أما أن تسمح بانتخابات تؤدي لتوحيد الفلسطينيين فتلك براءة لا تليق بالسياسة... علينا أن نبحث عن منطق مختلف..!!!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد