يكثر الحديث عن الحرب الجديدة التي سيخوضها نتنياهو ربما قبيل الانتخابات الإسرائيلية لأسباب عديدة أهمها وفق القراءات التي تؤيد هذا التوجه الهروب إلى الأمام في ظل بحثه عن ولاية جديدة ليثبت انه الزعيم اليميني الذي لا تغلبه تحالفات اليمين وتحالفات اليسار. وفي مثل هذه التصورات فإن السؤال لا يكون عن التوقيت بقدر ارتباطه بالجبهة التي سيفضل أن يذهب إليها. ومع وضع صناديق الاقتراع في القاعات فإن حرب نتنياهو المرتقبة باتت خلف الظهر وأن كانت الأسابيع الماضية قد شهدت سخونة عالية كادت تقود إلى الحريق الكبير. كان هذا في الساحة الشمالية أو في غزة بجانب التوتر الذي ظهر للسطح أكثر من مرة في سورية أو مع إيران. وفي كل الأحوال فإن نتنياهو خلال الأسابيع الماضية بدا مثل من يبحث عن حرب يخوضها. كان جاداً، أو هكذا قدم نفسه في الإعلام حتى نهاية الأسبوع الماضي حين قال: إننا قريبون من خوض حرب في غزة. ساعد في ذلك خطاب الانتخابات الذي أعاد إنتاج خطاب الحرب بوصفه أداة تشعل فتيل النقاش الداخلي في إسرائيل، فوصف اليسار نتنياهو بالفاشل أو بالعاجز عن ردع الفلسطينيين خاصة مع منظر هروبه من أحد اللقاءات مع المريدين بعد إطلاق صواريخ فلسطينية. كل هذا قدم مشهد الحرب على أنه أمر حتمي لن يطول انتظاره.


ومثل أشياء كثيرة في السياسة الشرق أوسطية فإن ما يبدو قريباً سرعان ما يصبح في دفات كتاب النسيان، وما تظن أنه غير محتمل وان نسبة وقوعه صفر يتحقق في غمضة عين. هكذا لم يعد يفصل نتنياهو عن المواجهة الحقيقية أمام إرادة الجمهور الانتخابية إلا ساعات لكنه لم يتوقف عن الحديث عن الحرب، بل وظلت الحرب وشبحها يخيمان على الخطاب والنقاش الداخلي في إسرائيل، كأن هذا الخطاب هو القاعدة وغيابه هو الاستثناء. ولكن أيضاً ووفق الحكمة الشرق أوسطية ذاتها لا يمكن القول باختفاء فرص اندلاع الحرب كما لا يمكن القول بحتمية وقوعها. وحتى بعد أن يتم إعلان النتائج سيصعب القول بتوجهات الحكومة الإسرائيلية الجديدة بقدر صعوبة توقع الفائز في الانتخابات.


لكن مثل هذا الطرح ومثل ذلك التوقع بوقوع الحرب وكل التحليلات التي تسعى لفهم عقل نتنياهو عشية الانتخابات والتي تجزم كلها بسعيه وراء حرب حتى يتهرب من المشنقة التي قد تكون تنتظره إذا لم يعد رئيساً للوزراء، كلها ينقصه المنطق السليم للتفكير، فهي تفترض الافتراض الخاطئ بأن نتنياهو بحاجة لسبب من أجل أن يشن حرباً على الفلسطينيين أولاً وأخيراً.


إن النزعة العدوانية للمشروع الصهيوني هي ما يحكم كل تصرفات الدولة التي ولدت منه، أي إسرائيل، وقادتها لم يكونوا يوماً في السابق وليسوا ولن يكونوا في المستقبل في وارد البحث عن سبب لقتل الفلسطينيين أو العدوان عليهم. فالعدوان على الشعب الفلسطيني لم يتوقف يوماً منذ المذبحة الأولى ومنذ سرقة متر الأرض الأول، بل كان في تصاعد ويأخذ أشكالاً مختلفة مع الزمن ووفق تطور مقتضيات العصر. وعلى مدار أكثر من قرن من الصراع كان هاجس إبقاء الفلسطينيين في حالة ترقب العدوان القادم يحكم كل الخطاب الصهيوني تجاههم، بل إن مثل هذا الخطاب كان موجهاً في الأساس تجاه هذه الغاية. وإن إدراكنا لمثل هذه المسلمات يعفينا من الكثير من البحث في التأويل الذي لا حاجة له لينقلنا إلى مصاف الحديث عن الحلول الواجب اتباعها من أجل تجاوز الأزمات التي نواجهها بأقل قدر ممكن من الخسائر.


إذاً، هل نتنياهو بحاجة لسبب حتى يشن حرباً على الفلسطينيين؟ وبعبارة شبيهة: هل هو بحاجة لتوقيت نموذجي من أجل فعل ذلك؟ قد يكون ثمة دوافع شخصية تتحكم بتدخلات الفرد السياسية، وهذه يمكن لعلم النفس السياسي أن يخبرنا الكثير عنها، لكن من المؤكد أن ثمة حدودا لمثل هذه التدخلات وأن ثمة نوازع كثيرة تتحكم بها. أهمها ربما التنشئة السياسية. فنتنياهو ابن الصهيونية الذي يعرف أن حالة العداء للشعب الفلسطيني هي الـ"دي أن أي" الخاص بالحركة الصهيونية، لأن مجرد الوجود الفلسطيني على هذه الأرض هو نفي لمنطق وأخلاق وأساسيات المشروع. لهذا لم يكن عجباً وحين بات تحقيق الدولة الفلسطينية بعد مشروع أوسلو ممكناً ان يقوم غلاة الصهيونية باغتيال رابين الذي احتل القدس ، لأن ما يقوم به قد يؤدي إلى شيء يناقض المشروع. بالطبع رابين لم يكن محباً للسلام ولم يرده لكنه كان يقوم بتحقيق مصالح إسرائيل بطريقة مختلفة. وفي كل الأحوال فإن من الخطأ التفكير في أسئلة مثل تلك. فنتنياهو ليس بحاجة لسب لشن حرب على الفلسطينيين وليس بحاجة لتوقيت مثالي من أجل أن يقوم بذلك، وأن العدوان على الشعب الفلسطيني يجب أن يكون مرتبطا بتاريخ أو بسبب محددين. فثمة سبب كبير هو ما يوجب استمرار العدوان إنه محاولة إزالة هذا الشعب عن الخارطة.


أليس ما يطرحه نتنياهو من ضم مناطق من الضفة الغربية عدوانا أكثر بشاعة من القصف والقتل؟ أليس استمرار توسيع المستوطنات وسرقة الأراضي ونهب المقدسات عدوانا أكثر بشاعة؟ السؤال الكبير الذي يجب ألا يغيب عن بالنا يتعلق بنا ولا يتعلق بالآخرين. سؤال يقول برسم الإجابة: هل يجب أن ننتظر تصرفات الآخرين ونكتفي بردة الفعل؟ سؤال كبير يكشف نواقص كثيرة في وعينا وتدخلاتنا السياسية كما يعكس عدم تقدير دقيق لحساسة اللحظة التي نعيش.


ستنتهي الانتخابات الإسرائيلية وقد يفوز نتنياهو وقد يخسر، لكن شبح الحرب سيظل قائماً والدماء التي ستسيل ستظل تنتظر في الشرايين، أما الأسئلة الكبرى حول مصيرنا وكيف يمكن لنا أن نواجه هذا المصير فلن تجد الإجابة الحقيقية عنها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد