لم يكن ياسر عرفات يتصور، وهو يهبط بطائرته في مطار «سان أندروز» العسكري الأميركي في طريقه لتوقيع اتفاق أوسلو، أن هذا الاتفاق سيتم دفنه إلى جانب كل محاولات التاريخ الفاشلة، فقد كان شديد ال حماس ؛ معتقداً أن اللحظة التاريخية أصبحت بين يديه، وأن شمس الاستقلال اقتربت حين استقبله في المطار الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة السعودية آنذاك في واشنطن، فقد كان عرفات يردد بكل الفرح، كما نقل بندر لدينس روس: «في أندروز يا بندر... في أندروز يا بندر».
لم يكن الزعيم التاريخي يتصور أن البيت الأبيض، الذي جهّز كل متطلبات التأثير الإعلامي، بالمسرح والإضاءة والممثلين، هو نفسه من سينقلب على الاتفاق هذا، بعد أن بعثر الإسرائيلي ما تبقى منه في رحلة كان فيها الاتفاق يتآكل قطعة قطعة، إلى إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه سيضم غور الأردن ومستوطنات الضفة، لنكتشف أننا أمام حقائق تجسدت على الأرض، أصبح أوسلو بعيداً عنها أو أن تلك الحقائق جعلت ما اعتقده الفلسطيني أنه بداية الطريق هو النهاية الطبيعية التي أرادها الإسرائيلي، وجزء من الفلسطينيين الذين عارضوا وكذلك الظروف التي تشكلت لتخدم المعارضين من الطرفين، وهكذا كان.
كيف انزلق التاريخ إلى تلك النهاية ونحن نكتب في هذه الذكرى عن النهاية الأكثر وضوحاً من أي ذكرى سابقة؟ فقد أمكن الآن بعد ستة وعشرين عاماً الجزم بأن أوسلو الذي بدأ بالحلم انتهى بكابوس، كيف؟ وكيف لم نقف أمام الخط البياني الذي كان يسير هابطاً أمام أعيننا، ودفنا رؤوسنا في الرمل ولم نرغب حتى بمشاهدة الانهيار الذي كان يسير نحو محطة واحدة لا غيرها، وهي النهاية الفاشلة بلا أدنى شك.
مَن صنع مَن؟ هل صنع معارضو أوسلو من الطرفين مناخات الانهيار، أم أن ظروف السنوات التي تخللت الاتفاق هي من صنعت المعارضة، أم أن كلاً منهما كان يتغذى على الآخر، بمعنى أن الاتفاق كان يؤدي إلى طريق مسدود كان يجب أن تبدأ المعارضات بملء فراغه، أم أن المعارضة وضعت عصيها أمام دواليب العربة لتصنع مناخات الفشل؟ وبكل الظروف، نحن أمام حقيقة أننا وسط ظروف مختلفة وواقع مختلف أكثر تعقيداً من سابقه.
أوسلو لم يتعرض للدراسة كما كل تاريخنا حتى لا نستخلص العبر وحتى نستمر في الغرق كعادتنا، لأن لحظة المراجعة والمكاشفة قد تكون مؤلمة ومكلفة، لهذا يستمر الانحدار دون أن نسمح حتى بجملة من طفل يقولها في لحظة براءة «الملك عارياً»، فقد أصبحنا جميعنا عراة دون ورقة تغطينا أمام هجمات إسرائيل والولايات المتحدة، وعراة أمام شعب كان يريد أن يصعد نحو الحلم فإذا به يكتشف أنه غريق، ولم يبق سوى رأسه يتنفس فقط فوق الماء؛ بعد أن تكسرت كل سفن نجاته.
لقد تعثر مسار أوسلو وهو يمر بمحطات كثيرة جعلت من التقييم العابر له مسألة في غاية السطحية. لقد قتل اليمين إسحق رابين، وذلك كان الاختبار الأول والذي يصعب الإجابة عن سؤاله: ماذا لو لم يقتل رابين؟ هناك انقسام في التقييم بين من كان يظن أن بقاء رابين كان من الممكن أن يدفع بأوسلو للأمام، وبين من يعتقد أن الاتفاق مسألة تتعلق بالأمن القومي الإسرائيلي، وأن اليسار لم يكن يقبل بدولة على حدود 67 إطلاقاً؛ لأن لديه تصوراً لمستقبل الضفة ببعده الأمني وتلك أيضاً حقيقة.
ماذا لو لم تحدث عمليات «حماس» عام 96، والتي جاءت برأس اليمين للحكم، بنيامين نتنياهو ، وبالتيار المركزي الذي قرر إسقاط أوسلو، والذي التقط الفرصة للإجهاز عليه، وبعدها قتل هذا اليمين زعيم الفلسطينيين الحائز على جائزة نوبل للسلام، ثم تم تدمير كل ما يتعلق بما اتفق عليه الطرفان، وهو حلم ووعد كان أقسمه اليمين لحظة الاتفاق عام 93. يومها كان اليمين قد انحسر على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في تلك المناخات، لينتهي الآن بانحدار حزب العمل الذي أسس الدولة وصاحب فكرة أوسلو، وعلى الجانب الآخر تراجع وتآكل التيار الوطني وتلك حقيقة أخرى، فقد تمكن «أوسلو» من هزيمة صانعيه ونصر معارضيه، فقد أعطاهم كل ما لم يحلموا به.
الآن يضعنا «أوسلو» أمام واقع شديد القسوة؛ نظراً لمآلاته التي تتحقق على الأرض، بعد أن عرف ياسر عرفات أن ما تم الاتفاق عليه لن يؤدي إلى الحلم بعد خمس سنوات. فانقلبت الطاولة على الفلسطينيين أولاً وتحطمت مؤسساتهم ليصبح «أوسلو» ومخرجاته الباهتة مادة الصراع بين الفلسطينيين على امتيازاته لينشغلوا بأنفسهم إلى هذا الحد!
هل من سبل للخروج؟ لقد أخطأنا جميعاً بدءاً من مفاوض كانت تتملكه جملة أحلام وعواطف، ومعارضة قررت ألا تنتظر التجربة. وبغض النظر عن التباين الشديد الذي تلوح به الهزيمة في تقييم ذلك الحدث التاريخي بين مؤيد ومعارض، بين من يعتبره ضرورة اللحظة بمناخاتها والذي بدا كخيار وحيد، وبين من يعتبره بداية السقوط والضياع، وبين مقتل رابين وعمليات «حماس»، كل ذلك مختلف عليه. لكن الثابت الوحيد الذي لا يمكن الاختلاف عليه هو أن اتفاق أوسلو أعطى للفلسطينيين فرصة لتجربة أنفسهم في حكم شعبهم، وقد فشلوا حين سمح لهم باختبار الحكم، فإذا بهم يقدمون تجربة شبيهة بالتجارب العربية. ولولا «أوسلو» الذي وفر تلك الفرصة لبقينا نعتقد أننا استثناء، فأوسلو لم ينته بتبديد مؤسساتنا والانقضاض على الأرض، بل يكاد يقتل حلم الفلسطيني بحكم نفسه، وتلك هي الكارثة، ولسوء الحظ توفرت فرصة لتجربة المعارضة في لحظة ساخرة أيضاً...!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية