كان أيمن عودة مثار اهتمام وتتبع من قبل عشرات، وربما مئات من الكتّاب والصحافيين والمثقفين والنخب الفلسطينية على مدار السنوات القليلة الماضية، وذلك لما اتسم به تفكيره السياسي من وضوح ومرونة وهادفية.
المبادرة الأخيرة التي جاءت في "يديعوت أحرونوت"، أثبتت أن هذا التتبع والاهتمام، لم يكن سوى نوع من الاستشعار السياسي، الفكري والثقافي، لما يتمتع به الرجل من أهلية قيادية عالية، وبعد نظر وحنكة نحن أحوج ما نكون إليها.
قيمة المبادرات السياسية الكبيرة تقاس بمدى قدرتها على اختراق الحاضر، بكل ما ينطوي عليه هذا الحاضر من صعوبات وتحديات ومراوحات، وفي تحول هذا الاختراق إلى أداة فعالة للعبور نحو المستقبل.
وكل تفكير سياسي لا يقوى على هذا الامر بالذات، هو تفكير، إما قاصر أو متكلس وواهن.
وتكمن قوة وفعالية التفكير السياسي المؤثر في القدرة ـ ليس فقط في مجرد تحويل التحدي إلى فرصة ـ فهذه مسألة ضرورية على كل حال، وإنما في القدرة ـ أساساً وقبل كل شيء ـ على تحويل هذه الفرصة إلى تحد جديد في ملعب الطرف المقابل، أو الأطراف المقابلة من معادلة الصراع السياسي.
أيمن عودة ـ كما أرى ـ أراد أن يحول الكتلة الانتخابية لـ "المشتركة" إلى قوة سياسية فعالة، وليس إلى مجرد عدد أكثر أو أقل من المقاعد التي يمكن أن تحققها "المشتركة" في الانتخابات القادمة.
وأراد أن تكون هذه الكتلة فعالة لجهة ما يمكن أن تحققه للناخب من مكاسب، وما يمكن أن تؤمّنه له من حقوق منتهكة. وأراد عودة من خلال مبادرته الشجاعة أن يقول لكل المطالبين بمقاطعة الانتخابات القادمة في إسرائيل [تحت ذريعة أو بحجة عدم القدرة، وانعدام الأمل بإحداث تغيير حقيقي في الواقع المعيش]، أن تصويت فلسطينيي الداخل بنسبة 65% سيؤدي على المستوى السياسي المباشر إلى إسقاط اليمين أو منعه من تشكيل حكومة ـ وهذه مهمة عظيمة بحد ذاتها على كل حال ـ، كما سيؤدي إلى تحول "المشتركة" إلى القوة الرئيسة للمعارضة في إسرائيل في حال إن تم تشكيل حكومة "وحدة وطنية" فيها، وإلى قوة مانعة وإلى كتلة حقيقية للتوازن السياسي، قادرة على تحقيق مكتسبات كبيرة في حال إن تم استخدام هذه الكتلة المانعة للمساومات السياسية والمطلبية على حدٍّ سواء.
صحيح أن هذه المساومات لن تكون سهلة مع بعض الأطراف الصهيونية الكبيرة على الأقل، ولكن الصحيح، أيضاً، أن مجرد الدخول إلى مناقشات جادة بشأنها، هو إنجاز كبير بحد ذاته، لما يمثله من بداية "اعتراف" ضمني أو واقعي وحقيقي بوزن وأهمية الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، ودورها ومكانتها الحاضرة والمستقبلية.
وعندما تتحول أي أقلية قومية في حقل السياسة إلى قوة [غير قابلة للتجاوز]، تكون هذه الأقلية قد انتقلت موضوعياً إلى قوة سياسية نوعية جديدة نحو: إما المشاركة الفعالة أو إلى المعارضة الفعالة.
وعندما تضطر، الأحزاب الصهيونية، أو نصف الصهيونية أو شبه الصهيونية إلى أن تدخل في مساومات بما يمكن أن يفضي مثلاً إلى إنقاذ "الديمقراطية" في إسرائيل، بدلاً من إجهاضها والإجهاز عليها من قبل اليمين الديني والقومجي المتطرف، أو إلى إلغاء قانون القومية ـ على سبيل المثال أيضاً ـ،  وإلى إعادة الاعتبار للعملية السلمية و"حل الدولتين".. فإن هذه الأقلية تكون قد انتقلت من موقع المعارضة الشكلية ـ على أهميتها أحياناً ـ إلى موقع المعارضة الفعالة والقادرة على خوض معارك مفصلية من شأنها أن تحدث المزيد من التغييرات وصولاً إلى التحولات المنشودة في الواقع السياسي الإسرائيلي، والذي من دون تحققه "يصعب" تصور ما يمكن أن تصل إليه الأمور في هذا الواقع مستقبلاً.
وربما أراد عودة أن يعتذر للجماهير الفلسطينية في الداخل ـ على طريقته ـ عن كل المراوحة والمزاحمة غير الصحيحة على المقاعد في الآونة الأخيرة، وقبل إعادة تشكيل "المشتركة" الجديدة، بأن يحضها على الثقة بنفسها، وعلى "الطلاق" مع مفاهيم "الحرد" السياسي، وعلى التشبث بالأمل، والتوثب للمشاركة في صنع مستقبلها.
وربما أراد عودة أن تتحول المشاركة السياسية لجماهير الداخل إلى مشاركة مثابرة وغير موسمية وغير انتخابية محضة، وإنما أن تتحول إلى فعل سياسي محوري متواصل، وفي إحداث تراكمات نوعية في قضاياها المعيشية والمطلبية.
مبادرة أيمن عودة ـ كما أراها ـ تدشن مرحلة جديدة من وعي الذات الوطنية، ومراهنة على بناء أو إعادة بناء هذه الذات، ولكنها في المقابل، أيضاً، هي اختبار للذات فيما إذا كانت ناضجة للدور الجديد، وفيما إذا كان هذا الوعي والنضج كافياً في هذه المرحلة لخوض غمار هذه المعركة، معركة اختراق الواقع بكل صعوباته وتحدياته، وهو اختراق لم يعد مستحيلاً على كل حال.
والاختبار ليس حول جدوى المبادرة، فهذه لا شك في أهميتها والحنكة من خلفها، وإنما تحويل هذا الاختيار إلى تحد جديد.
في بعض مراحل التحولات السياسية الكبيرة، الأيام تعادل السنين، وفي مفاصل هذه المراحل تعد الخطوات بمئات الأميال.
والمعركة في النهاية هي معرفة فن انتزاع الحقوق، وليس مجرد خوض نقاش لإقناع الآخرين بها.
ولهذا فإن مبادرة أيمن عودة تحمل في ثناياها كل عناصر الشجاعة والحنكة واختيارات الإنضاج.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد