الثابت أن الجريمة في المعمورة بدأت منذ الخلقة الأولى ونزول الانسان الأول آدم على وجه الأرض، وبالتحديد قتل أحد ولدي أدم للأخر (قتل قابيل لأخيه هابيل) فكانت أول جريمة في التاريخ، وبعدها بدأ مسلسل الجريمة في تصاعد مع تزايد سكان الأرض ولم يتوقف حتى يومنا هذا وسيستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يستوي في ذلك كل ذرية بني آدم من شعوب ومجتمعات وأجناس في قارات الكون المختلفة، وأنزل الله الشرائع المختلفة على البشر " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" وأرسل اليهم الرسل والانبياء لصلاحهم وتنظيم شؤونهم وإقامة الحدود والقصاص في الجرائم بينهم، علاوة على تشريعاتهم الوضعية القبلية منها والعرفية.

وفي بلادنا فلسطين المشهد ذاته إذ أن هذا الجزء من العالم ليس بمعزل عن سائر الشعوب والكيانات فهو موطن الديانات السماوية الثلاث، وساحة صراع دائم بين الحق والباطل جيلاً بعد جيل سواء على مستوى الجماعات أو الافراد، وفلسطين كجزء من محيطها العربي والإسلامي تمتاز بمجتمع قبلي عائلي محافظ حيث توارثت أعراف مجتمعية وعادات وتقاليد أصبحت قانوناً باطناً يحكم المجتمع الفلسطيني في ظل القانون والقضاء الرسميين.

ونظرا لحالة عدم الإستقرار السياسي والأمني في بلادنا المستمرة منذ عقود طويلة فقد شكلت هذه الظروف بيئة خصبة لإتساع الجريمة وتمددها أفقياً ورأسياً سيما في ظل الحصار الاقتصادي القائم والحروب المتوالية خصوصاً في قطاع غزة ، وتتنوع أنواع هذه الجريمة بين الاعتداء الجسدي او المعنوي و السرقة والقدح والذم والمشاجرة والسطو والسلب وحتى القتل و التهديد به والنصب و الاحتيال وانتحال صفة الغير والإعتداء على الأموال والعقارات الخاصة والعامة والجرائم الإلكترونية ...إلخ من الجرائم التي أصبح المجتمع مثقلاً بها وبأعبائها .

معالجة هذه القضايا الجزائية تتم بمسارين أحدهما عام والآخر خاص، والعام هو الحق العام والذي تمثله النيابة العامة كممثلة للمجتمع يساعدها في ذلك الضابطة القضائية من شرطة وأجهزة امنية، حيث تتم التحقيقات الجزائية في واقعة الجريمة بما في ذلك سماع أقوال أطراف الجريمة من جاني ومجني عليه وشهود الواقعة وبياناتها المختلفة وتوقيف الجاني أو الجناة، وبعد إكتمال هذه التحقيقات تحرر النيابة لائحة اتهام بحق المتهمين وإحالتهم للقضاء لنيل العقوبة التي يستحقون وفقا لأحكام القانون سيما قانون العقوبات الفلسطيني الساري .

أما بخصوص مسار الحق الخاص فعادة ما يباشره المخاتير ومن في حكمهم من رجال الإصلاح بتكليف من الجناة أو ذويهم وعوائلهم بهدف تسوية النزاع وإصلاح ذات البين، بيد أن هذا الامر الهام (الحق الخاص) ليس على عواهنه، فهو يحتاج الى وقفة وتامل عميقين في أهداف ذلك وآلياته وأثاره وتبعاته على حد سواء.

فمما لا شك فبه أن الصلح هدف نبيل وغاية سامية وهذا ما حث عليه الإسلام الحنيف والأديان الأخرى و كذلك التشريع الفلسطيني ، بيد أن الصلح المقصود هنا هو الصلح الحقيقي الذي يضع النقاط على الحروف ويرضي النفوس ويرد الحقوق وليس الصلح المغشوش الذي يسعى الى التحايل و الالتفاف على الحقوق ويغل النفوس والقلوب ويبقي على المشاكل او يأزمها في دروب وخطوب جديدة وأكثر تعقيداً مما سبق.

المخاتير ورجال الإصلاح هنا للموضوعية والأمانة وعدم الخلط بينهم على ثلاثة أنواع شأنهم في ذلك شان القضاة تماما، منهم من عرف الحق وحكم به ومنهم من عرف الحق ولم يحكم به ومنهم من لم يعرف الحق ولم يحكم به ، فالفريق الأول هو المخلص ومأواه الجنة بإذن الله فهو يباشر عملاً خالصاً لله وهذا العمل أفضل من الصلاة والصيام والصدقة و نيته خالصة لله " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما "، والفريق الثاني فهو فريق المكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ الا بأهله فهو يسير في طريق الضلالة والغش والتدليس والكذب والدجل والنصب بهدف التكسب المادي أو قضاء حاجة عند أحد أطراف النزاع أو بهدف إثارة الفتنة لضغينة في نفسه (والفتنة أشد من القتل) ...أوغيرها من أهداف ظاهرة أو باطنة تعكس نموذجاً قبيحاً ممن يتسترون بعباءة الإصلاح زورا وبهتانا، والفريق الثالث لا يقل خطورة عن الفريق الثاني فهم الجهلاء أو الدهماء مصداقاً لقول رسولنا الكريم (من عبد الله على جهل فكأنما عصاه " فهؤلاء لا علم لهم بأصول الإصلاح والعرف وسلكوا هذا الدرب بحثاً عن وجاهة جوفاء أو تحقيق ذات فاشلة أو لأطماع دنيوية أخرى ويمشون بين الناس بجهل أو عن باطل فضلوا وأضلوا، وبغض النظر عن نواياهم فالله وحده من يعلم النوايا الا أنهم في الغالب يعقدون مشاكل الناس ويأزمونها ويخلقون فتنة تأكل الأخضر واليابس ويفسدون نسيج المجتمع .

سفينة الصلح ينبغي أن تمخر عباب البحر بأمن وأمان وبصدق وتفان وإخلاص لتصل الى بر الأمان من خلال قبطان ماهر حاذق أمين وعالم بأصول السفن والبحار وبخلاف ذلك تغرق السفينة بما فيها إلى حيث لا يريد أحد، وهذا ي فتح الباب على مصراعيه لمراجعة مسيرة الصلح والإصلاح في بلادنا وإصلاحها والوقوف عند إنجازاتها واخفاقاتها وعقباتها لتقييم المسيرة وتطويرها لما فيه خير للبلاد والعباد.

إن ما لا شك فيه أن الإصلاح الاجتماعي لعب دوراً رائداً ومتقدماً في المحافظة على النسيج الاجتماعي لشعبنا الفلسطيني وشكل رافعة متقدمة للوحدة الوطنية فيه سواء بين قبائله وعشائره وعوائله من جهة وبين مكوناته السياسية والمجتمعية من جهة أخرى، وهذا عزز صمود شعبنا في مواجهة الاحتلال و ضخ دماء في مشروع التحرر الوطني وتصليبه، لأن " القلاع تهدم من الداخل" كما قال القائد الفرنسي نابليون بونابرت.

بيد أن هذه المسيرة لها جوانب أخرى من الإخفاقات والتعثر ومن أبرزها تسييس قطاع الإصلاح فهنالك لجان إصلاح لفتح وأخرى ل حماس وثالثة للجهاد...الخ فأصبح رجال الإصلاح في خدمة الساسة بدل العكس وأضحى الإصلاح بحاجة لإصلاح وأخفقت مسيرة المصالحة المجتمعية بعد الانقسام المستمر منذ سنوات طوال والتحق بركب الإصلاح كل من هب و دب و تحولت الرسالة الجليلة إلى تحقيق ذات و وجاهة و تحقيق غايات ومصالح ذاتية أو فئوية، وأصبح الناس يشتكون من المخاتير و رجال الإصلاح وأصبح العديد يعاني من قهرهم ونفوذهم وشبكة علاقاتهم وضغوطهم المادية والمعنوية لارغامهم على سلوك مسارات صلح غير عادلة ولا ترد إليهم حقوقهم.

إن أهم ما يلفت الانتباه في مسارات الصلح الاجتماعي الجزائي اليوم هو إهمال أغلب الجناة وعوائلهم وعشائرهم للمجني عليه وذويه وعدم السعي الجاد لرد الاعتبار لهم ورد مظالمهم وحقوقهم وتطييب خواطرهم التي مست بفعل السفهاء أو الجهلاء أو الدهماء أو أراذل الناس، مما يدفع هؤلاء المظلومون (المجني عليهم ) للتوجه للقانون لإنصافهم بدلاً من أخذ القانون بيدهم وما قد يتفاقم عليه الحال من عواقب لا يعلمها إلا الله، وهو سلوك قانوني وحضاري نحث عليه جميع فئات شعبنا نحو تعزيز سيادة القانون وتقوية العدالة الاجتماعية ورد الهيبة لسلطة القضاء والقانون.

هنا يتدخل المخاتير ولجان الإصلاح- بعد سبات عميق- بتحريك من ذوي الجناة الذين أضحوا مطلوبين للعدالة لتوقيفهم ومساءلتهم على جرائمهم المختلفة والتحقيق معهم وتقديمهم للمحاكمة أمام القضاء، هؤلاء النفر غير الأمين وغير المؤتمن على العدالة الاجتماعية من المخاتير - ولا أقول جميعهم للإنصاف والموضوعية- ينصب دورهم وتتركز مطالبهم بغباء مدقع وبنوايا سيئة على ورقة الصلح للإفراج عن الموقوف أو المطارد للعدالة مقابل وعود جوفاء أو حلول تسطيحية لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تمنح المجني عليه وذويه إلا كلمات وعبارات معسولة لا قيمة لها ولا ترد للمجني عليهم ولعوائلهم حقوقهم المسلوبة معنويةً كانت أو مادية واعتباراتهم المهضومة ولا يمنحونهم بخبثهم ومكرهم وجهلهم إلا زيارة المجني عليه في بيته أو ديوانه ( زيارة ضحك على الذقون) أو ( بوسة راس) وشرب فنجان قهوة وإغلاق القضية كأن شيئاً لم يكن ... هذا ما يحصل أو يراد له أن يحصل ببساطة وتفاهة .

إن هذه الفئة الضالة من المخاتير ورجال الإصلاح التي أضحت تعيث فساداً في الأرض وتعبث في مسيرة الإصلاح المجتمعية النقية الصافية التي يتصدرها مخلصون مشهود لهم بالصدق والنزاهة من مخاتير ورجال إصلاح بحاجة لحملة تصدي ولجم وتحجيم لهم لمخالفتهم لأصول الشرع والقانون والعرف الوطني ومبادئ العدل والإنصاف، هؤلاء يخالفون الشرع لأن الله سبحانه وتعالى يقول: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، ورسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الشريف ( أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا ننصره مظلوما يا رسول الله، فكيف إذا كان ظالماً، قال أن ترده عن ظلمه) إن هذه الفئة الضالة تنصر الظالم على حساب المظلوم وتقف بجانب المعتدي ضد المعتدى عليه .

قانوناً القاعدة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) وكل جرم بحاجة إلى عقوبة والناس سواسية أمام القانون و من أمن العقاب أساء الأدب، فمن يخطئ و يجرم ويرتكب أذى للغير مادياً أو معنوياً يجب أن يعاقب العقاب الرادع الزاجر وليس " بوسة راس" وإمشي، وعرفاً وفقهاً " المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً " و"الغنم بالغرم" كما هو الشرع أيضاً ولعله أشد قصاصاً من القانون في محاسبة الجاني وذويه الداعمين له وفق نظام كفالة صارم مصداقاً لقوله تعالى:" خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين" ، فالأصل أن الصلح لاحق للعقاب وليس سابقاً له وهذا هو الصلج الحلال، أما الصلح السابق للعقاب أو بلا عقاب فهو صلح مفخخ بالضغينة والكراهية والتفجر في أية لحظة وسيحول لاحقا المشكلة الصغيرة ويفرخها الى مشاكل كبيرة و مزمنة ولربما مستعصية على الحلول وهذا الصلح فاسد وغير مشروع وحرام.

هذه الفئة الضالة المضلة التي تضرب بعرض الحائط بجهلها وفسقها أسس ومبادئ الشرع والقانون والعرف لصالح الباطل و المفسدين صلحها باطل فما بني على باطل فهو باطل، وهو صلح غير شرعي وحرام لأنه يخالف أحكام الكتاب والسنة فهو يناصر الفئة الباغية " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت احداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ان الله يحب المقسطين " و هو نصرة للظالم على المظلوم خلافاً لتعاليم الحديث الشريف .

هذا الصلح حرام ... حرام ... حرام، أثم من قام به وباشره، أثم من عمل به فاعتمده، أثم من ساهم فيه ولو بكلمة أو همسة أو لمزة ، فالدال على الخير كفاعله والدال على الشر كفاعله أيضا.

لهؤلاء نقول لكم الوزر والإثم والخزي في الدنيا ولكم في الأخرة عذاب شديد، وللمظلومين الصبر والجزاء من الله ومن المخلصين الصادقين الذين سيردون لكم حقوقكم عاجلاً أم آجلاً . وعلى أجهزة العدالة من نيابة وشرطة وأجهزة أمن ومحاكم تمحيص و تدقيق سندات الإصلاح التي تتم على أيدي هذا النفر الضال من المخاتير و رجال الإصلاح وفتح المجال لمراجعتها من أي غش أو تدليس أو إكراه فما ينتزع بالإكراه المادي او المعنوي باطل، وما أخذ بسيف الحياء فهو حرام، كما على جمعية المخاتير برئاسة الصديق المختار سيف الدين أبو رمضان وإخوانه ومجلس قبائل و عشائر البادية برئاسة الصديق الشيخ عودة العمور ومفوضيات الإصلاح الأخرى ورجال الاصلاح والمخاتير المحترمين الشرفاء والنزهاء التصدي لهذه الفئة المارقة الضالة ممن يتدثرون بثوب المخترة والإصلاح زوراً و بهتاناً ولفظهم اجتماعياً وطردهم من سلك الإصلاح والصلح المجتمعي والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد