سألني مذيع إحدى القنوات الإسرائيلية -يوم فاز يحيى السنوار برئاسة المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة – بماذا تفسر فوز المتشددين أو الراديكاليين في حماس بالانتخابات الداخلية..؟ كان جوابي له: بماذا نفسّر هزيمة بعض البراغماتيين داخل حماس..؟ نعم، مبدأ المخالفة مهم لفهم الأشياء والظواهر السياسية، فمن يتتبع السلوك الإسرائيلي تجاه الرئيس محمود عباس ، والسلطة الفلسطينية، يستطيع أن يفهم دوافع التشدّد عند حركة حماس وباقي فصائل المقاومة، ويستطيع أن يفهم كيف تزداد قوة حماس كحركة تقود مشروع المقاومة المسلحة في فلسطين، رغم الحصار والأزمة المالية الخانقة، وإدراك شعبنا أن الانتماء لمشروع المقاومة قد يكلّف الكثير بالمقارنة بالانتماء لمشروع التسوية والسلام في شكله الراهن.

ماذا قدمت إسرائيل للرئيس محمود عباس..؟ لم تقدّم له سوى مزيد من الاستيطان، وتهويد المقدسات، وبناء الجدار العنصري، وفصل المدن الفلسطينية عن بعضها بالحواجز، والانقلاب على الاتفاقيات، وسرقة أموال المقاصة الضريبية، ومنع السلطة الفلسطينية من التحوّل إلى الدولة المستقلة كاملة السيادة ودفعها لممارسة الدور الأمني الوظيفي الذي يهدف إلى جعلها شرطي في خدمة أمن دولة الاحتلال دون تكلفة، بل تدفع الدول العربية والغربية مقابل تلك الخدمات الأمنية، حتى أصبحت إسرائيل أرخص احتلال عرفه التاريخ المعاصر.

من هنا تتضح صورة إسرائيل، وأن أصل المشكلة ليست في حركة حماس أو فصائل المقاومة الأخرى كما تحاول الماكينة الإعلامية الصهيونية تصويرها، حتى وقعت للأسف بعض وسائل الاعلام العربية والدولية في هذا الفخ، بل أصل المشكلة في الاحتلال، وحالة الصراع الذاتي داخل مكونات الدولة العبرية، التي ينتابها هاجس اسمه ديمومة واستمرارية وبقاء دولة إسرائيل، وأصبحت الديموغرافيا، والاستيطان، وعملية السلام، هما ثلاث أضلاع لمثلث يسيطر على الفكر الاستراتيجي لإسرائيل، والعلاقة بينهما علاقة أمنية، وتعمل إسرائيل على تحقيق الأهداف الثلاث من أجل الحفاظ على بقائها ونقاء عرق شعبها (قانون القومية)، والمحافظة على صورتها أمام الرأي العام الدولي.

حيث تشكل الديموغرافيا أحد أهم الأمراض المزمنة التي تعاني منها دولة إسرائيل، حيث تشير الدراسات الصادرة من دولة الاحتلال وأبرزها ما ذهب إليه أرنون سوفير الخبير الإسرائيلي المتخصص في قضايا السكان في دراسة له عام 2010 بالقول: “هناك تراجع في أعداد اليهود بفلسطين المحتلة عام 1948م مع حلول عام 2025، في مقابل تزايد أعداد العرب، وأضاف سوفير: إن نسبة اليهود في فلسطين المحتلة تتآكل عاما بعد عام، مشيراً إلى أن نسبتهم بلغت خلال العام الجاري 49% من إجمالي سكان فلسطين، بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزة، كما تقدر نسبتهم 56.3% بدون احتساب قطاع غزة، وأن هذه النسبة سوف تتضاءل مع حلول عام 2015 وستصل نسبة اليهود في فلسطين كلها إلى 46% من إجمالي السكان.

وتابع أنه مع حلول عام 2025، ستصل نسبة التكاثر اليهودي في فلسطين المحتلة إلى نسبة سلبية تقدر بنحو 41.8% من إجمالي السكان، مضيفاً أن إجمالي سكان فلسطين اليوم 11.4 مليون نسمة، وسيصل مع عام 2015 إلى 12.8 مليون نسمة، ومع حلول عام 2025 سيبلغ إجمالي الفلسطينيين 15.5 مليون نسمة، أما اليهود داخل إسرائيل فستبلغ نسبتهم 70.6% فقط من بين إجمالي 7.4 مليون نسمة، فيما سيبلغ السكان العرب نحو 29.4%”.

وفق هذه الدراسة التي كتبت قبل تسع سنوات نستطيع أن نفهم السلوك الصهيوني في علاج تلك المعضلة والتي تقوم على المعادلة التالية: زيادة معدلات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل مقابل زيادة هجرة الفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية إلى الخارج.

وهو ما يحصل اليوم من حصار إسرائيلي، وتعزيز لحالة الانقسام، وزيادة معدلات الفقر والبطالة، وتعثر عملية السلام، وزيادة وتيرة الاستيطان، مع العمل على بقاء السلطة الفلسطينية كدور وظيفي أمني، يقابله قيادة حملات منظمة لاستهداف الرموز الفلسطينية وقادة الفصائل، حتى تزداد معدلات الاحباط، والعزوف عن الوطنية فتزداد الرغبة بالهجرة خارج فلسطين، وهو ما يحصل بالفعل في هذه المرحلة، وبذلك يتحقق أحد أهداف الدولة العبرية التي تعمل بكل الوسائل على استقدام اليهود من الخارج إلى دولة إسرائيل، وكان آخر موجة هجرة يهودية من أمريكيا الشمالية صباح اليوم الأربعاء الموافق 14/8/2019م حيث وصل إسرائيل 242 مهاجراً.

أما عملية السلام فأدارتها إسرائيل لتحقق المعادلة التالية: نجاح العملية التي عززت من حضور إسرائيل إقليمياً ودولياً وأصبحت أمراً واقعاً وساهمت في دفع عجلة التطبيع إلى الأمام، والعمل على عدم تحقيق السلام وهو ما لم يتحقق حتى تاريخه. بينما مضى الاستيطان وازدهر بشكل لافت في ظل البيئة الأمنية السائدة في الأراضي الفلسطينية والتي ساهم الانقسام في ازدهارها، وعملت جماعات المصالح الفلسطينية على ديمومتها واستمراريتها، حتى لم تنجح القيادة الفلسطينية بعد تشكيل ثمانية لجان لتنفيذ قرارات وقف التنسيق الأمني، على تحقيق أي شيء بما يعكس حجم الأزمة التي تمر بها القضية الفلسطينية.

الخلاصة: إن أحد أهم عوامل بقاء إسرائيل يتمثل في تماسكها وتفوقها الديموغرافي، والاقتصادي والعسكري، فتراجع اقتصادها وأمنها يعزز من هجرة مواطنيها وعودتهم إلى بلدانهم الأصلية، من هنا تكمن أهمية المقاومة بكل أشكالها، وأهمية الوحدة الفلسطينية التي تعزز من صمود شعبنا على ترابه.

ما سبق يفسر سبب انقلاب إسرائيل على الرئيس محمود عباس وعلى فكره السياسي، لأن أطماعها أكبر مما نتخيل، وما تريد تحقيقه فقط الاستفادة من الصورة التي تعكس ديمقراطية دولة الاحتلال ورغبتها في عملية السلام فتزول عنها صفة أنها دولة عنصرية احتلالية منبوذة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد