صحيح أن الموقف الفلسطيني كان موحداً شعبياً ورسمياً، رغم الانقسام السياسي الداخلي حول السلطة، تجاه صفقة العصر، وتجلى ذلك الموقف تجاه أول تجليات تلك الصفقة حين انعقدت ورشة المنامة للبحث فيما سمي بالشق الاقتصادي من الصفقة، وصحيح أيضا أن مخرجات تلك الورشة قد أظهرت أهمية الموقف الموحد الفلسطيني، حيث فرض على الورشة أن تنعقد بالحدود الدنيا من التمثيل، ودون مشاركة فلسطيني واحد، لكن ما هو صحيح أيضا بأن الورشة أظهرت المدى الهش بل والمتهالك لعدد من الدول العربية، خاصة دول الخليج، فيما يخص الموقف من المبادرة العربية، ومن التطبيع مع إسرائيل دون أو قبل التوصل للحل السياسي.


خلال الورشة وقبلها وبعدها، ظهرت ومازالت تتواصل مظاهر فتح الأبواب الخليجية أمام تطبيع العلاقات مع إسرائيل، حيث معروف بأن كل دول الخليج العربي، حتى اللحظة لا تربطها علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية التي لا تعترف بها، أصلا، وذلك التزاما بالموقف العربي الرسمي المعبر عنه في العديد من قرارات الجامعة العربية وقممها المتتالية، وباستثناء الكويت التي لم تشارك لا في الورشة ولا في مظاهر الاحتفاء الإعلامي بشكل خاص بإسرائيل، فإن كل دول الخليج الأخرى أظهرت إشارات وعلامات التهالك والهرولة التطبيعية، تلك التي مازالت تغري حامل صفقة القرن وعرابها، ونعني جاريد كوشنر وطاقمه بمتابعة طريقها.


وصحيح أيضا، أن بعض الدول تبدي حنكة وحذرا تمليه مكانتها السياسية، وبالتحديد المملكة العربية السعودية، حيث لم يتم اختراق موقفها الرسمي ولا بأي شكل باتجاه التطبيع، باستثناء ما يعلنه بعض إعلامييها وصحافييها وبعض كتابها من مواقف غريبة وشاذة وصلت إلى درجة التشكيك بالإسراء والمعراج وبمكانة المسجد الأقصى، لكن الدول الأربع الأخرى سمحت للعديد من مظاهر التطبيع الرسمي، مضافا إليه التطبيع على عدة مستويات اقتصادية ورياضية وحتى ثقافية، وبالطبع فإن التطبيع الإعلامي قد سبق كل هذا، وهو يجري منذ سنوات عديدة حيث تستضيف العديد من الفضائيات العربية/الخليجية إعلاميين وحتى مسؤولين إسرائيليين، بحجة الظهور بمظهر موضوعي لتقديم الرواية الإعلامية من طرفيها، وكأنهم محايدون، أو يخجلون من انحيازهم للجانب الفلسطيني في الصراع الدائر منذ عقود طويلة.


ورغم أن الانتخابات الإسرائيلية قد أجلت تشكيل الحكومة الإسرائيلية، بل وأدخلت إسرائيل لحالة من الشلل السياسي طوال هذا العام، ورغم أن الانتخابات الرئاسية الأميركية بدورها على الأبواب، وستبدأ في خلق حالة من الاهتمام بها كلما اقتربنا من نهاية العام، إلا أن كوشنر، وربما لهذا السبب بات يسابق الزمن، من أجل الإبقاء على صفقته حية ومتداولة، خاصة بعد أن ربط مستقبله السياسي الطموح بها، لذا فإنه اعتبر عقد ورشة المنامة وما خرج منها إنجازاً، ولم يتوقف لا هو ولا طاقمه عن مواصلة الحديث والتدخل بواقع وتفاصيل الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، رغم كل ما سبق وقلناه من أنه اتضح تماماً له بأن الموقف الفلسطيني نهائي وأنه فعال ومؤثر على الموقف العربي.


ما من شك بأنه لا يراود لا كوشنر ولا طاقمه أدنى شك من الرفض الفلسطيني للصفقة، وأن أحدا من الفلسطينيين لن يتقاطع أو يتعامل معها، وذلك بعد أن حاولوا تجاوز الموقف الفلسطيني الرسمي بعرض الصفقة على المستوى الشعبي لعل وعسى أن يتفاعل معها أحد من الفصائل أو حتى الأشخاص، وكانت ورشة المنامة نموذجا، من خلال توجيه الدعوة لبعض التجار أو رجال الأعمال للمشاركة بالضد من الموقف الرسمي والشعبي.


لكن على ما يبدو أن كوشنر يراهن على تجاوز الموقف الفلسطيني برمته، بانجاز حل إقليمي، أي حلا عربيا/إسرائيليا بالرعاية الأميركية، أو بدفع العرب للضغط على الجانب الفلسطيني، وحين يرفض، يتفضل العرب بالتوقيع نيابة عن الفلسطينيين، كما حدث في كامب ديفيد مثلا، حيث أصر حينها الرئيس المصري أنور السادات على أن تتضمن الاتفاقية حل المسألة الفلسطينية، وحين رفض الفلسطينيون المشاركة بها أو حتى قبولها، بتضمينها الحكم الذاتي، لم يتم تنفيذ هذا الشق بالطبع، لأن أهله رفضوه.


أي أن عين كوشنر على العرب الذين لم يظهروا موقفا حاسما، بل هم يركضون وراء وهم الحماية الأمنية الأميركية/الإسرائيلية لعروشهم ونفطهم مما يعتقدونه من خطر إيراني.
هذا ما تؤكده الأخبار التي تشير إلى أن كوشنر ينوي زيارة المنطقة مجددا، بهدف دفع الصفقة إلى الأمام، وربما من أجل الاتفاق على موعد لإعلانها، ووفق موقع «ريشت كان» الإسرائيلي وكذلك فضائية الميادين، فإن كوشنر سيأتي الأسبوع القادم، حيث من المقرر له أن يزور خمس دول عربية إضافة لإسرائيل، وهذه الدول العربية هي، مصر والأردن وكل من السعودية، قطر والإمارات.


أما عمن يرافق كوشنر، فربما يشير ذلك إلى مرتكز السياسة الأميركية والحامل الذي تعول عليه لفرض الصفقة، فإضافة إلى جيسون غرينبلات، شريك كوشنر في ملف الصفقة، هناك برايان هوك الموفد الأميركي المكلف الملف الإيراني، أي أن المسؤول الأميركي وفي ظل التسخين الأميركي مع إيران نزولا عند الرغبة الإسرائيلية، يسعى لمقايضة عرب الخليج بتشكيل الناتو العربي مع إسرائيل وأميركا ضد إيران بالملف الفلسطيني.


لهذا يبدو بأن خطر صفقة العصر مازال قائما، وماثلا، وما لم يرد الفلسطينيون بالوحدة الداخلية أولا ثم بإطلاق الاحتجاج الشعبي في كل مكان ثانيا لدفع الشعوب العربية، للتصدي للموقف العربي الرسمي المتقاطع مع الصفقة، فإن الأمر لن يمر على خير، ومن الواضح بأن إدارة الأزمة مع إيران من قبل البيت الأبيض تبدو متدرجة، فهي تريد أن تبث حالة من الخوف والرعب لدى دول الخليج، من أجل أن تبصم على الصفقة وتقوم بكل ما تريده إسرائيل وأميركا من أجل فرضها، لذا هي لن تستعجل تلك الحرب، وكما فعلت من قبل تجاه صدام حسين، فإنها ستفعل هذه المرة بدرجة أكبر مع عرب الخليج، حيث أنها في الوقت الذي تحارب فيه إيران من أجل إسرائيل تقول بأنها تفعل ذلك من أجلهم، حتى يدفعوا تكاليفها مضاعفة بالمال والموقف من جيوبهم ومن الحقوق الفلسطينية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد