على امتداد الأسابيع الماضية كانت إيران هي الدولة التي يتم تهديدها بالضرب وكانت الولايات المتحدة هي التي ستضرب، لذلك كانت التصريحات الإيرانية أكثر ثقة بنفسها فيما الحديث الأميركي كان أقل ثقة وأكثر اضطراباً منذ أن بدأ الرئيس الأميركي بتسخين الأجواء مع طهران.
«قبل الضربة بعشر دقائق أوقفت القرار» هكذا قال دونالد ترامب وهو يبرر بإعادة ترك الحبل بعد إسقاط طائرة التجسس الأميركية على يد الحرس الثوري الإيراني، وهي ضربة كبيرة لما جرى من استعراض أميركي في الخليج خلال الشهر الماضي.
فقد قال الرئيس الأميركي إنه علم أن 150 مدنياً سيقتلون لذا أوقف الضربة وهذا أضعف تبرير من الممكن أن نسمعه من الولايات المتحدة المعروفة في كل حروبها بأنها لا تعير اهتماماً بالمدنيين، وحرب العراق الأخيرة مازالت في الذاكرة إذا ما تركنا صراعاتها ومعاركها الأخرى وبالطبع ليس أولها قنابل اليابان النووية التي أحرقت مدناً بكاملها بأطفالها وشيوخها.
لكن الأمر غير ذلك، فالرئيس الذي اتصف بالتهور حد الجنون يبدو أنه بدأ لعبة تذاكٍ تخلو من الذكاء مع دولة تحسب جيداً وهي ليست دولة عربية تخشى التهديدات. لم يجر ساكن البيت الأبيض حساباته الدقيقة هذه المرة، صحيح أنه رئيس مندفع في سلوكه ولكن الملاحظ في عمر رئاسته للبيت الأبيض أنه كان متهوراً في القضايا التي يستطيع أن يسير فيها بلا عقبات أو أمام خصم ضعيف كالعرب والفلسطينيين كما فعل في القضية الفلسطينية وقضية القدس ، لكن مثلاً مع كوريا الشمالية كان رئيساً عاقلاً بامتياز، هدد بعض الشيء لكنه ذهب كل تلك المسافة ليلتقي الرئيس الكوري.
هنا درس التاريخ مع إيران هذه المرة يبدو أنه كان يدرك ماذا يفعل ويدرك مخاطر التصعيد في الخليج، ويبدو أنه أدرك أن إيران لم ترتعد من تهديداته وأن المسؤولين الإيرانيين كما قال رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني لم يأخذوه على محمل الجد، وهو أصعب ما يمكن أن يقال في الرئيس الأميركي الذي يتصرف ويتحكم بكل هذه القوة كان شديد الغضب والانفعال وكانت إيران شديدة الهدوء وهنا كانت المفارقة.
الحرب في الخليج لو استعرت ستكون شديدة القسوة فإيران ليست عدواً سهلاً كما يقول الصحافي الاسرائيلي ناحوم بارنيع الذي يقول أيضاً إن صواريخها ستصل لكل نقطة في إسرائيل، وهذا ما يدركه الإسرائيليون حيث يقول بعض الأخبار إنهم تدخلوا لعدم ضرب إيران وهذا مشكوك فيه لأن التحريض لضربها يجيء أساساً من تل أبيب منذ سنوات طويلة ولكن يبدو أن البيت الأبيض الذي صعد على أعلى شجرة يستخدم سلماً إسرائيلياً للنزول.
لو اندلعت الحرب في إيران كان واضحاً من اللغة الإيرانية أن الدولة لن تستسلم، وهي دولة ستقاتل بكل ما تملك من قوة فيها وأيضاً على صعيد القوة التي وزعتها في الخارج ورأس حربتها حزب الله الذي خضع لتدريب ميداني طويل جداً في سورية وتعززت خبرته بعد دخول القوات الروسية التي قاتل إلى جابنها واكتسب خبرتها وهذا ما يؤرق الولايات المتحدة التي تعتبر أن أمن اسرائيل جزء من رسالتها وأمنها واسرائيل ستكون مكشوفة.
الحرب مع ايران ليست نزهة فعود الثقاب إن اشتعل هناك لن ينطفئ بسهولة وهذا بات واضحاً، واذا كانت السفن التي تم ضربها أو تخريبها في الخليج بأيدٍ أو تعليمات ايرانية كما اتهمتها بريطانيا والولايات المتحدة فان ايران تكون قد أرسلت رسالتها بأن الحرب لن تتوقف عند الأراضي الايرانية بل ستطال ناقلات النفط وهذا بدوره سيؤدي إلى توقف الامدادات عن أوروبا وبفعله ستنهار اقتصاديات أوروبية وتسقط حكومات ونموذج السترات الصفراء في فرنسا لم يغب عن بال الحكومات فيها ناهيك عن وصولها ربما إلى منابع النفط في الخليج وتلك ليست حسبة هواة بل إن العارفين في المنطقة وموازين قواها يحسبون بدقة.
لو كانت الولايات المتحدة ستشعل حرباً لكانت الطائرة التي أسقطها الحرس الثوري الايراني عود الثقاب الذي وفر لواشنطن الذريعة. لكن تلك الحادثة كانت أكبر اختبار للقوة الأميركية وتهديداتها التي تراجعت في اليوم الثاني ووضعت البيت الأبيض في موقف شديد الحرج، فالتراجع مشكلة والتقدم مشكلة أكبر ففضل التراجع.
أغلب الظن أن الرئيس الأميركي وكل تهديداته لم تكن بقصد إشعال الحرب بل دفع الأمور نحو الهاوية لإرغام إيران على إعادة التفاوض من منطق الضعف وفرض شروط جديدة وتكبيلها باتفاق جديد يلغي امتيازات الاتفاق السابق.
لكن صراع الإرادات ونتائجه بعد حادثة الطائرة أضعف الموقف الأميركي أكثر وبدت إيران أكثر قوة.
بعد حادثة إسقاط الطائرة أرسلت الولايات المتحدة رسالة لطهران أنها تفضل المفاوضات على الحرب، لكن الرسالة الإيرانية التي تسلمتها واشنطن لم تكن أقل إحراجاً للبيت الأبيض من الحادثة حيث رفضت طهران المفاوضات في أجواء التهديد بل صعدت أكثر بنيتها اتخاذ خطوات أكثر جادة بعد انسحاب أميركا من الاتفاق وفرض عقوبات جديدة وهي التي أثرت بشكل كبير على الاقتصاد الايراني إلى الحد الذي جعل إيران لا تخشى الحرب وربما تريدها، لأن وضع العقوبات أكثر سوءاً من الحرب أو قد ت فتح الحرب على مفاوضات تكون فيها قد أحدثت قدراً من الاستعراض وهي الدولة المنفتحة على روسيا وكوريا الشمالية ومنذ سنوات تعرف أن هذا اليوم قد يأتي وقد تتعرض لهجوم.
المقارنة الأشد إيلاماً هي مع العرب فمع التهديد الأول للرئيس الأميركي الذي صدر من وراء البحار كانت الأرجل العربية تصطك وتشحن ما لديها من أكياس المال لشراء الصداقة الأميركية والصمت الأميركي فالفرق واضح بين دولة مثل إيران تم حصارها ليكتشف العالم أنها كانت تنتج تحت الحصار سلاحاً نووياً لحماية الأمة الإيرانية ودول عربية لم تحاصر وتملك ما يكفي من المال لم تنتج رصاصة واضحة فالسياسة هي لعبة موازين القوى وممكناتها وحين يتجرد العرب من قوتهم من الطبيعي أن يستخف بهم الرئيس الأميركي وغيره أيضاً تلك هي حكمة التاريخ. فهل يتعلم العرب أم أن هذا درس عصي على العقل العربي ..؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية