لا يمكن وصف طاقم البيت الأبيض المعني بملف الشرق الأوسط السياسي، بأنه يفتقر للباقة الدبلوماسية وحسب، بل لا بد من وصفه بأنه «غر» وعديم الخبرة، بل ويتمتع بالبلادة وحتى بالغباء السياسي، ويبدو كما لو كان ما يزال في مرحلة الحملة الانتخابية، حيث لا يكف عن إطلاق التصريحات والمواقف الدراماتيكية التي لا تؤدي سوى إلى تعقيد الموقف على الأرض، وحيث إن الطاقم يظن بأن من شأن تلك المواقف والتصريحات أن تحدث اختراقا للملف الشائك والمعقد، بمجرد تغيير وجهة الموقف الأميركي التاريخي، فهو إنما يثبت سذاجته السياسية التي لا مثيل لها.
اللافت للانتباه أولا وقبل الخوض في التفاصيل، هو تبادل دفة توتير الأجواء مع الشعب الفلسطيني بإعلان المواقف التي تتجاوز حتى عتاة قادة اليمين الإسرائيلي، بحيث لم يعد ممكنا التمييز بين إن كان كل من ديفيد فريدمان وجيسون غرينبلات، الرجلين اللذين يشكلان مع جاريد كوشنير ضلعي المثلث المكلف ما يسمى صفقة العصر، سياسيين أميركيين أم مستوطنين إسرائيليين، وهما بالتناوب يتابعان، إعلان المواقف الغريبة التي تتعارض مع كل القوانين الدولية، فلا يثيران حفيظة الكل الوطني والشعبي الفلسطيني وحسب، بل وكل الدنيا بما في ذلك الكثير من الإسرائيليين أنفسهم، الذين باتوا يرون في مواقف هؤلاء «خطرا على دولة إسرائيل» نفسها، لأن تلك المواقف المعلنة تباعا، تضع حدا لسلام كان ممكنا، ويشمل ضمان الأمن لإسرائيل.
يعود السبب في تلك المواقف المتتابعة وآخرها تبشير فريدمان بحق إسرائيل في ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة إلى أكثر من سبب، أولها كون هؤلاء الرجال مستحدثي عهد بالسياسة الدولية، فلم ينخرط أي منهم سابقا في مدرستي الحزبين الأميركيين، وهم مجرد موظفين بالبيت الأبيض الذي يقوده رجل مغامر، كل خبرته أنه مقاول عقارات جمع ثروة تعد بالمليارات من الدولارات، ويتعامل اليوم بعد عامين ونصف العام من دخوله المفاجئ إلى البيت الأبيض مع السياسة الدولية كمقاول، لا يعرف سوى لغة المال والنقود، ولا ينظر إلى ما هو أبعد من قدميه.
وثانيها، هو أنهم جاؤوا من بعيد إلى الشرق الأوسط، ولا يعرفون الكثير عن تفاصيل المنطقة ولا عن مزاج شعوبها، والدليل هو أنهم لا يدركون بأن التطاول المستمر على الحقوق الفلسطينية، لا يستفز الشعب الفلسطيني وحسب، بل وكل شعوب المنطقة التي ما زالت تغلي بكل ما هو مثير ومتفجر ولم تبح بعد بكل أسرارها، في قلب طاولات الحكم، ومعادلات السياسة الإقليمية.
وثالثها، أنهم يتعاملون مع السياسة الخاصة بالمنطقة كما لو كانت شأنا أميركيا داخليا، لكن لا يهتم به الناخب الأميركي، فها هو دونالد ترامب، الذي دخل إلى البيت الأبيض وهو يراهن على الشراكة السياسية مع تيريزا ماي في بريطانيا ومع بنيامين نتنياهو في إسرائيل، يعرب عن إحباطه من جراء ذهاب إسرائيل إلى انتخابات برلمانية جديدة، بعد أن اعتقد بأن نتنياهو باق في الحكم، طوال فترة بقائه هو في البيت الأبيض.
التعثر في السياسة الخارجية الأميركية في كل الملفات الخارجية ـــ تقريبا، لا يمكن إلا أن يكون دليلا على تخبط سياسة البيت الأبيض، مع الطاقم المشار إليه ومع وزير خارجية من النمط ذاته، بعد أن قام ترامب بتبديل وزيري الخارجية والدفاع اللذين دخل معهما البيت الأبيض عقب نجاحه المريب في الانتخابات الرئاسية السابقة.
أقل ما يمكن أن يقال في السياسة الخارجية الأميركية هو أنها قصيرة النظر، وتفتقر إلى البعد الاستراتيجي، وهي تجريبية إلى حد كبير، وحيث إن ترامب يدخل في الوقت نفسه في حروب تجارية وسياسية في غير مكان، فإن الفشل هو مصيره المؤكد، ولعل الوقت لم يطل ليثبت انه قد فشل في معالجته للملف الكوري الشمالي، وكذلك الملف الفنزويلي، وهو ي فتح الباب على فشل جديد حيث يقود سياسة هوجاء تجاه إيران وفلسطين في آن واحد.
كل إعلان عدائي يعبر عنه فريدمان أو غرينبلات، يزيد من صلابة الموقف الفلسطيني الرافض للدور الأميركي في معالجة الملف الفلسطيني، واليوم، لم يعد فقط المقبول هو رفض التفرد الأميركي برعاية التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بل الدور الأميركي نفسه، حيث لا بد أن يرد المواطن الفلسطيني على فريدمان وغرينبلات بالقول «وأنت مالك»، أي لم يعد مقبولا التدخل الأميركي عبر هؤلاء المسؤولين بملف الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي أصلا.
إن دلائل الفشل التي تلوح في أفق صفقة العصر، باتت واضحة، فبعد شهور طويلة من التبشير بإعلان الصفقة، قاد الرفض الفلسطيني لها، ومن ثم مقاومتها الرسمية والشعبية، إلى تأجيل يتعبه تأجيل، ومن ثم جاءت إخفاقات «الشريك الإسرائيلي» لتزيد من الحالة سوءا لدرجة يمكن القول معها، إن طاقم الصفقة كان يرى في ورشة البحرين مقدمة لإعلانها رسميا، بعد إعلان تشكيلة الحكومة الإسرائيلية، فجاء الإعلان عن الانتخابات الجديدة ليضع كوشنير وصحبه في مشكلة لم يعودوا معها قادرين حتى على الإعلان عن الموعد الجديد لإعلان الصفقة بل إن كان سيتم إعلانها أم لا، وليكتفوا بالركض وراء ورشة البحرين.
ورشة البحرين نفسها، صارت على كف عفريت، بعد تردد الدول العربية المركزية عن إعلان المشاركة بها، وبالتحديد كل من مصر والأردن، وهما دولتا الجوار لفلسطين، هذا أولا وثانيا هما الدولتان اللتان تربطهما اتفاقيتا سلام مع إسرائيل، ليصل الأمر بالبحرين نفسها لتعلن رسميا بأنها مجرد مكان لانعقاد الورشة، وهي ليست الدولة الراعية لها.
كل هذا والحال الفلسطيني الداخلي ليس على أحسن حال ولا الحال العربي الرسمي أو الشعبي كذلك، فماذا لو أن الشعب الفلسطيني هب في حراك شعبي عظيم يوم انعقاد الورشة وحتى قبل انعقادها، وهبت معه جماهير الشعوب العربية، هذا مع احتمال أن يسقط نتنياهو على طريق الانتخابات الجديدة وربما يسقط أيضا «الليكود» وحتى اليمين، ويحدث الانقلاب في إسرائيل، فيما تدخل أميركا نفسها في عام انتخابات رئاسية لا يضمن فيها ترامب الفوز؟!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد