لا يمكن للعرب الذين كانت لهم أياد طويلة وفاعلة في اللعب المباشر لإشعال نيران الصراع الدامي في عديد البلدان العربية، أن يتعظوا من الدروس المريرة التي خلّفتها الصراعات، التي كلّفت الأمة أثماناً باهظة منذ اندلاع ثورة الياسمين في تونس نهاية العام 2014.


بأياديهم السوداء، وفّر بعض العرب المال والسلاح، والغطاء السياسي والمعنوي للتدخلات الأجنبية لكي تعيث فساداً وتدميراً في مقدرات الأمة. إنه صراع الأنظمة السياسية المختلفة التي اعتقدت أن الخطر على استقرار أنظمتها مصدره دول عربية، وليس الولايات المتحدة أو إسرائيل.


اليوم تتعرض ثورة ديسمبر السودانية إلى التدخلات العربية، السلبية التي تسعى لنفخ الروح في قوى خلافية، سودانية، تحضيراً للدخول على الخط لتخريب أهداف الثورة، وإعادة السودان إلى عهود الظلام والظلم والاستبداد مرة أخرى.


الثورة المضادة بدأت تطل برأسها، لتخريب العلاقة والحوار الجاري بين المجلس العسكري المؤقت، وقوى التغيير والحرية. إغلاق مكاتب قناة الجزيرة القطرية، على الرغم من أنه مؤشر إضافي، على بداية خطر التعدي على الحريات الصحافية، إلاّ أنه، أيضاً، يشير إلى تقييم سوداني سلبي لدور قطر، الذي يتعدى الدور الإعلامي التحريضي.


ربما لا يستطيع المجلس العسكري الانتقالي، لحسابات كثيرة، أن يكشف الأدوار والتدخلات العربية السلبية إزاء الوضع الناشئ في السودان، لكن هذا لا يعني أن العرب يرغبون في رؤية الثورة وهي تحقق أهدافها في الواقع، فإن المشهد السوداني ليس كله وردياً، فالثورة السلمية البيضاء، تدفع أثماناً باهظة، لا يجرؤ الإعلام على الحديث عنها أو لنَقلْ أنه ممنوع من الحديث عنها.


ثمة أعداد ليست قليلة من الشهداء والجرحى، الذين سقطوا حتى بعد الإطاحة بالبشير وحكمه، الذي على ما يبدو، أن العسكر لا يزالون يحافظون على هويته، رغم كل ما جرى من عمليات اعتقال وعزل، ومحاكمات، لمسؤولين في النظام السابق.


الوضع في السودان لا يشبه أبداً الوضع في مصر أو تونس أو الجزائر، حيث لعب الجيش ويلعب أدواراً وطنية في حماية وحدة البلاد، وهو أمر لا يفوق في أهميته كل ما يسجل من ملاحظات على الأوضاع في تلك البلدان. الجيش السوداني، غير مؤتمن على أهداف الثورة، فلقد تربى على الاستبداد، ورضع حليب نظام عسكري فاسد، هيمن على الحياة السياسية في السودان لأكثر من خمسين سنة، وليس فقط للثلاثين سنة الأخيرة وهي عمر نظام البشير.


ذلك النظام هو المسؤول عن إفقار الشعب السوداني، وتخلف البلد الذي يعرف على أنه سلة غذاء الوطن العربي، فإذا هو لا يستطيع توفير الغذاء للسودانيين. وذلك النظام هو المسؤول عن المجازر العنصرية التي جرى ارتكابها بحق بعض الأقاليم، وهو المسؤول حتماً عن الانقسام الذي قصم ظهر السودان إلى نصفين، وجعل نصفه قاعدة للولايات المتحدة وإسرائيل لكي تتآمر على مصر والدول العربية الموجودة على ضفاف نهر النيل.


لقد أضاف فشل النظام العسكري الإسلاموي في السودان تجربة أخرى من الفشل لطموحات وبرامج "الإسلام السياسي"، المرتبط بالقوى الاستعمارية. الشعب السوداني وقواه الثورية، يدركون بعمق هذه الحقائق ولذلك فإنهم يتمسكون بأهداف الثورة والبقاء في الشوارع، حتى يخضع العسكر لمطالبهم بتشكيل مجلس انتقالي يغلب عليه الطابع المدني، ويحدد للجيش والأجهزة الأخرى صلاحياتها وأدوارها، إلى أن تجرى الانتخابات وتتشكل حياة سياسية جديدة ذات أبعاد ديمقراطية مدنية.


الجيش بدوره يعرف هذه الحقيقة، ويعرف أيضاً أن تسليمه السلطة، للقوى المدنية، سيعرض قياداته يوماً للمساءلة والمحاسبة. لقد تعلم العسكر الرطانة بلغة سياسية مدنية، يعتقدون أنها يمكن أن تخدع الثوار، وأن تخلق لهم قاعدة اجتماعية يستطيعون من خلالها سحب البساط من تحت أقدام الثوار.


في الواقع، فإن تمسك العسكر بحقهم في أن تكون لهم الأغلبية في المجلس الانتقالي، واستمرار تصديهم للجماهير بعيداً عن أنظار وسائل الإعلام، يشير إلى احتمالات صدام مقبل يسعى من خلاله العسكر، لشن حملة مضادة، خاصة أن ثمة من ينتظر ويحرض، من الداخل والخارج.


لا بد من ملاحظة أن الإعلام العربي والإقليمي والدولي، لا يدعم بحق الثورة وأهدافها، ولا ينبري لفضح الدور القمعي الذي يمارسه الجيش، ودعماً للطابع السلمي للثورة وأهدافها.
لن يطول الأمر، حتى تفضي حالة التخندق من قبل الطرفين: الثوار والعسكر، إلى صدام خطير، من شأنه أن يعرّض البلاد إلى ذات السيناريوهات التي مرت بها بعض الدول العربية، وبما يخدم المخططات الأميركية الإسرائيلية، التي لم تعد خافية على أحد في المنطقة أو خارجها. الثورة السودانية بلا ظهير عربي رسمي أو شعبي، أو ظهير إقليمي أو دولي، ما يضع الشعب السوداني أمام مسؤولياته التاريخية، ليفرض إرادته، حتى لو كلفه ذلك ما كلف من أثمان. عيون الجيش والأجهزة الأمنية مفتوحة على ميدان الاعتصام، والأيادي على الزناد، استعداداً لفض الاعتصام بالقوة، ما لم تتوقف قوى الثورة عن مواصلة احتلال شوارع العاصمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد