صحف فلسطين قبل النكبة ملامح الحياة في إعلان - آلاء أبو عيشة

صحف فلسطين قبل النكبة

قد لا تتعدى نفقات حفل افتتاح محلٍ اليوم، نفقات فرقة "عراضةٍ موسيقية" تعزف أمام بابه يوم الافتتاح، وصينية حلوى كبيرة يوزّعها صبيٌ على الحاضرين مع فنجان قهوةٍ عربية، وبعض علب المياه المعدنية على سبيل التجاوز.

هذه "الهَلُمّةُ" لم تكن تكفي لإقناع أهالي مدينة القدس عام 1938 لحضور أي افتتاح، حين كان افتتاح فرعٍ فيها لأحد محلات أزياء السيدات والقبعات الفرنسية واسمه "كليمانس"، يتطلب إعلانًا في صحيفة "الدفاع" (30/آذار) يدعو فيه السيدات إلى حضور حفل افتتاحه، ملَغِّمًا الدعوة بـ"قنبلة الترغيب" حين أوردَ في نصِّه أن مشرفة خياطات المحل -وهي من أشهر خياطات فرنسا- ستكون هناك يومذاك.

1.png
 

في تلك الآونة –أي في سنوات ما قبل النكبة (1948) تحديدًا- لم يكن عرض المنتج في إعلانات الصحف يكفي على أي حال، كان كل معلن يحاول التفوق على منافسيه من المصنّعين والمستوردين بفكرةٍ مختلفة تجاوزت تصميم الإعلان أو لغته، إلى ما يداعب عقل القارئ ويقنعه بأنه "الكسبان" بشراء المنتج حتى وإن أنفق عليه ماله.

إعلانٌ لشفرة حلاقة رجالية من نوع (إيفري داي) "النفيسة" نشرته صحيفة فلسطين في العدد (170) بتاريخ 21 تشرين أول/أكتوبر 1936 هي خير دليل، إذ جاء في مضمونه: "اشتري شفرة حلاقة، واحصل على واحدة أخرى مجانًا مع أنبوب كريم صابون بالموليف".

الإعلان نفسه وبذات التاريخ نُشِر في صحيفة الدفاع بنفس المضمون واختلاف لغة الخطاب، ما يدلل على أن المحرر كان هو المتحكم بشكل الإعلان النهائي، وليس المعلن كما هو الحال اليوم، إذ تفضل الشركات الكبرى تصميم إعلاناتها بنفسها وإرسالها جاهزةً إلى الصحف لتُنشر برؤية المعلن فقط "كونه صاحب المال".

2.png
 

مثّل دخول الطباعة إلى فلسطين منتصف القرن التاسع عشر عاملًا حاسمًا في إصدار الصحف؛ حين دخلت أول مطبعة عربية (وكان اسمها دير الروم) إلى فلسطين خلال العهد العثماني عام 1846، فيما لم يَغِب الإعلان عن صفحات الصحف والمجلات رغم طابع التغطيات الإخباري الذي كان سائدًا آنذاك في التغطية.

جولةٌ قصيرةٌ على إعلانات الصحف الفلسطينية قبل عام 1948، مستوى الخدمات وجودة المنتجات وأسلوب الترغيب وطريقة الصياغة وأكبر الشركات المعلنة، كفيلةٌ برسم ملامح الحياة وقتذاك. التفاصيل تتبع.

"النفير".. صفحة كاملة

لعل صحيفة "النفير" كانت من أوائل الصحف الفلسطينية اهتمامًا بالتسويق، إذ عرفت الصحيفة الإعلانات مبكرًا كما ظهر في العدد رقم (949) الصادر في شهر كانون الثاني/يناير 1911، حين نشرت في ذيل الصفحة الأولى إعلانًا يقول: "لأجل السفر لجهات أمريكا في أسرع وأكبر بابورات المساجري الفرنسوية، المخابرة مع مكتب الشركة في القدس خارج باب الخليل"، ويقصد بـ"البابورات" هنا تلك البواخر تملكها شركة "المساجيري ماريتيم" الفرنسية. هنا نتساءل عن "سهولة السفر" -رغم ما كان يتكبده المسافر من عناء ووقت- في حين يفتقد الكثير من أهالي فلسطين هذه الميزة رغم تطور الوسائل بسبب الاحتلال.

3.png
 

وتطور وضع الإعلانات في "النفير" كثيرًا بعد عدة سنوات، حين أفردت لها الصفحة الأخيرة، وبدأت تستخدم ضمير المخاطب (أنت) في صياغتها مع تضمين الكلمات العامية لتقريب اللغة وتحفيز الخيال، وهذا ما يدلل عليه إعلانٌ نشرته بعددها الصادر في 20 كانون ثاني/يناير 1920، وكان مضمونه: "متى أردت السفر إلى حلب اجعل نزولك في أوتيل ميركل اجبسيان، الواقع في محلة باب الفرج القريب من مركز المدينة ودوائر الحكومة ومعتمدي الدول، إضافةً إلى نقاوة هوائه ونظافة أثاثه وفراشه وحسن طعامه مع مهاودة الأسعار".

وتنوعت الإعلانات منذ عرفتها الصحافة الفلسطينية إبان الحكم العثماني، إذ اقتصرت بداية على فرمانات وتشريعات الدولة العليا التي كانت تنشرها "القدس الشريف" عام 1876 باللغتين العربية والعثمانية، لتشمل في مطلع التسعينات وحتى النكبة منتجات الشركات، والمصانع، والمتاجر، والعصائر، والأحذية، والسجائر، والخمور، والبنوك، ومكاتب التبادل التجاري، والبلديات، ودور السينما، وحتى أصحاب المهن والحرف من أمثال الأطباء والخياطين في صورة أقرب إلى الإعلانات المبوبة التي نعرفها اليوم لإشهار الوظائف أو الخدمات.

4.png
 

نص إعلان نشره الطبيب سعيد قعوار في تلك الحقبة، جاء فيه: "طبيب درجة أولى مستعد تمامًا لمعالجة الأسنان واللثة وتركيب الأسنان الصناعية كالطبيعية، والأسنان الذهبية والتلبيس والخلع بلا ألم وبمنتهى المهارة والخفة، كما أنه يكرم زبائنه بمهاودة الأسعار" خاتمًا إعلانه بعبارة "التجربة خير برهان"، وإدراج عنوان العيادة في أول شارع الكنائس في بيت إيليا افتيحة.

كانت الأسنان الذهبية رائجةً في تلك الفترة للنساء كفرصةٍ للادخار الآمن إلى حين عُسر، وللرجال كدليل وجاهةٍ واقتدار، حتى أن التاريخ يذكر أن الأسنان الذهبية سُرقت من أفواه الجنود والضباط القتلى في الحربين العالميتين الأولى والثانية من قبل عصاباتٍ تخصصت بهذه السرقة تحديدًا.

5.png
 

إعلانات النعي ووطنية السيجار

ولم تخلُ الصحف الفلسطينية من إعلانات النعي والتعزية بنص تفيض منه المشاعر عندما كان يوصي المعلن محرر الإعلان بتعداد محاسن المتوفى، وسبب وفاته، وأحيانًا أبيات شعرٍ تأبينية تخصه، مع العلم أن الإعلان عن الوفيات في تلك الحقبة كان جزءًا من الممارسة الإخبارية للصحافة وليس من ضمن السوق الإعلانية كما هو حالُهُ اليوم، نظرًا لقلة عدد السكان في كل مدينة.

6.png
 

وقد تستغرب صديقي القارئ إن عرفت أن إعلانات السجائر كانت تعزف على وتر الوطنية في خطابها خلال زمن الاحتلال البريطاني لفلسطين، حيث كانت شركات مثل: (الفؤاد، وقرمان ديك سلطي ليمتد، والاتحاد) تحث المدخنين على شراء السيجار العربي الفلسطيني "لذيذ الطعم طيب الرائحة على اعتبار أن الإقبال عليه "تشجيعٌ للمعامل والصناعة الوطنية الحقة"، وأن شراءه يعني أن "أموال فلسطين منها وإليها"، في محاولةٍ لضرب سوق السيجار الإنجليزي الذي كانت تستورده "ماسبيرو المصرية". العدد رقم (34) من صحيفة النفير لعام 1930م يحتوي مثالًا حيًا.

7.png
 

وراجت في الثلاثينات إعلانات الخدمات التعليمية، مما عكَس نهضة الحالة الثقافية آنذاك، حين بدأت الصحف تعلن عن مدارس اللغات والحِرَف في المدن الكبرى، وكان أكبرها إعلان مدرسة راتزبون في صحيفة فلسطين بعدهها رقم (13) لشهر أيلول/سبتمبر 1936 التي بدأت نص إعلانها بذكر العنوان (شارع الملك جورج) ودلالته من خلال الوصف حين وصفته بـ"أهدأ وأكثر المناطق أمنًا"، ثم بدأت بذكر أهم الخدمات التي تقدمها من تدريسٍ للغات العربية والفرنسية والإنجليزية والعبرية، بالإضافة إلى ما يقدمه قسمها الآخر الخاص بالحرف (التجارة والحدادة والطباعة).

1245.png
 

المحاكاة

وتظهر ملامح الصحافة الفلسطينية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 وخضوع فلسطين لاحقًا للاحتلال البريطاني، اعتماد الصحف على محاكاة نظيراتها في الدول العربية سواءً من ناحية الحجم أو الإخراج، مستفيدة من دخول الصحافة المصرية إلى فلسطين أواخر العهد العثماني، وذلك بسبب الافتقار إلى الخبرة والخوف من التجربة والسبق في التجديد.

وبينما لم يكن اللون الأسود على الورق الداكن هو القاسم الوحيد المشترك للإعلانات مع الأخبار، كانت اللغة العربية الفصحى أيضًا تسود في لغتها "وغالبًا كانت تصاغ على شاكلة الأخبار لكن بأسلوب أقرب إلى حديث شخصي لتُشعِر من يقرأها بأنه المعني من الإعلان وحده"، كما كان استخدام الرسومات الكرتونية وعلى نطاق محدود للتعريف بالمنتج دارجًا حينها.

وحتى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، بقيت الإعلانات تنشر في صفحات الصحف دون إطارٍ يفصلها عن الأخبار، في حين بدأت الصحف بتخصيص صفحاتٍ كاملة لأجلها، مرفقةً الصور التعبيرية المرسومة للمنتَج المقصود، وإن لم تتوفر يكتفي المحرر بإدراج شعار الشركة المنتجة.

أما الإخراج فقد أخذ منحىً أكثر تنظيمًا بعد تلك الحقبة، إذ لم يقتصر الفصل بين الإعلانات والأخبار على الفواصل الطولية أو العرضية وإنما بوضع الإعلان داخل إطار يبرزه، واستخدام الصور وتعددها في الإعلان الواحد، وكذلك تنوع حجم الخط المستخدم، وأساليب الإخراج، وهو ما عكس استفادة الصحف الفلسطينية من نظيرتها الإنجليزية، سيما في ما يتعلق بالتخصيص الذي ظهر في مخاطبة الإعلان لفئات محددةٍ من الجمهور-النساء مثلًا- بدعوتهن إلى اقتناء أنواع معينة من الصابون والماكياج والزيوت العطرية والملابس مثلًا، والرجال أيضًا بعرض المنتجات الخاصة بهم كإعلانات شفرات الحلاقة، ومحلات خياطة البدلات الأنيقة، وعلى رأسها إعلان "الزمبوك" الذي نشر في أكثر من صحيفة آنذاك، وهو منتج مخصص للعناية ببشرة الرجال؛ يزيل البثور والبقع الحمراء القبيحة ويعالج الأكزيما "ويباع في جميع الأجزاخانات".

استخدام كلمة "أجزخانة" لم يكتب جزافًا، فهي كلمة تركية معربة، تناقلها أهالي فلسطين كالكثير من الكلمات من حقبة الحكم العثماني حتى عام النكبة، وتعني بالعربية الصيدلية، أما استخدامها في الإعلان فيؤكد اللجوء إلى "العامية"، أو المصطلحات المتعارف عليها لدى القارئ في الكتابة للإعلان كخطوةٍ لخطب وده.

8.png
 

أستاذ الإعلام في قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الإسلامية أمين وافي، أكد أن مفهوم الإعلام في صحف فلسطين قبل النكبة كان أبعد ما يكون عن المفهوم العلمي السائد اليوم للإعلان الصحفي، قائلًا: "الإعلانات في التسعينيات والتي رافقت الثورة الصناعية وما قبلها كانت أقرب إلى البعد الإخباري منه إلى النشاط الترويجي للمنتجات، لكن تقدم الإنتاج ووضع العلامات التجارية للبضائع لتمييزها عن منافسيها، وتطور الأسواق وتقنيات الطباعة في النصف الثاني من القرن الـ19، منح الصحف فرصة لتطوير الإعلان بافتراض أشكال مألوفة أكثر لنا اليوم".

ويشير وافي إلى أن الإعلان الواحد خلال تلك الحقبة، كان يتكرر في أكثر من صحيفة، مع اتساع هيبة التجارة وتزايد عدد الشركات المصنعة والخدمات والمتاجر التي تتنافس للتربّح من المستهلك، مبينًا أن الصحف وقتذاك استغلت مع زيادة عدد الإعلانات مناطق الأذنين والصفحات الأولى والداخلية والأخيرة، دون اتباع مدرسةٍ إخراجية معينة أو قالب يخص نمط الإخراج.

ويضيف، "اعتمدت الصحف النص الإعلاني على الأغلب، لكن أوردت بعض الإعلانات صورةً للمنتج غالبًا تكون مرسومة، في حين أن اختلاف شكل الإعلان الواحد في أكثر من صحيفة، يشير إلى أن المحرر هو الذي كان يتحكم في شكل الإعلان ومساحته وليس المنتج، ويؤشر إلى عدم فاعلية وكالات الإعلان أو عدم وجودها في ذلك الوقت".

ويلفت وافي إلى اعتماد الإعلان على إثارة اهتمام القارئ بالتركيز على كلمات "جوائز- هدايا- خصومات- عروض" قبل الحديث عن المنتج، مضيفًا، "المدهش أن الإعلانات كانت تكتب نصفها بالعربية ونصفها بالإنجليزية، أو بكل لغةٍ على حدة في نفس الصحيفة".

وعرّج إلى اكتظاظ الصحف آنذاك بإعلانات الخمور، نافيًا أن يكون السبب الرئيسي مرور فلسطين بحقبة (الاحتلال البريطاني) "فهي صحف فلسطينية لا يمكن أن تروج لاحتلال (..) الفكرة أن التنوع الثقافي والعقائدي كان سببًا سبق عهد الاحتلال خصوصًا في مواسم الحجيج المسيحية إلى كنائس القدس و بيت لحم ".

9.jpg
 

كانت أكبر الإعلانات آنذاك، إعلانات شركة برتقال يافا، ومحطات النقل بين الدول العربية، وإعلانات الحفلات الفنية والسينمات في يافا أيضًا.

تفيد معطيات أوردها باحثون بأن العدد الإجمالي للصحف التي صدرت بين عامي 1908 و1948 نحو 250 صحيفة ودورية، أما قبل تلك الأعوام فلم تكن الصحافة بحال جيدة بسبب قيود السلطة العثمانية الصارمة على النشر، إذ لم يصدر وقتها سوى منشورتين هما "الغزال" و"القدس الشريف" عام 1876 باللغتين العربية والعثمانية، والتي تعد نشرة رسمية سعت إلى نشر الفرمانات والتشريعات آنذاك.

نقلا عن ألترا فلسطين

 

10.png
اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد