لا توجد قضية من قضايا العمل الوطني المطروحة على جدول الأعمال الوطني تثير هذا القدر من «الهزل»، وهذا القدر من مشاعر الاحباط واليأس والتندّر كما تثيرها المصالحة.
هذا القدر من هذه المشاعر لدى الأغلبية الساحقة من الجمهور الفلسطيني ربما يكون مردّها إلى أن قناعة الجمهور بالأسباب والمبررات التي تتمسك وتتمترس وراءها القوى المعطلة للمصالحة لم تعد تنطلي على أحد.
فتارةً تطرح هذه الأسباب والمبررات تحت البند السياسي، وتارةً أخرى تطرح في صيغة مكاسب فئوية، وعادة ما يغلف الفئوي بالسياسي ويستبطن السياسي بالفئوي، أما في أحيان أخرى وكثيرة يلتبس الأمر عند أهل هذه الأسباب وأصحابها من حماة ورعاة مشروع الانقسام حتى أننا نحار في أمرهم بل ونصدم بهذه الدرجة من التسخيف والتسطيح التي تعالج بها قضية على هذه الدرجة من الخطورة والأهمية كقضية المصالحة.
المضحك المبكي أن خطاب «التصدي» للمصالحة ـ والأصح القول خطاب الانقسام ـ من كثرة «الأسباب» التي يختلقها لإفشال محاولات العودة إليها (حواراً أو نقاشاً أو تفاوضاً)، وفي غمرة انغماسه في البحث عنها يدخل نفسه في تناقضات أصبحت في الفترة الأخيرة تتعلق برجاحة العقل وسلامة التفكير بأبسط صوره وأكثرها بداهة وسوية.
آخر ما حرر بهذا الشأن أن «فتح» والأجهزة الأمنية الفلسطينية قد «زودت» الطائرات الإسرائيلية التي كانت تهاجم القطاع (بإحداثيات) حول مواقع حركة حماس ...!!
لماذا أقول إن المسألة تتعلق برجاحة العقل وسلامة التفكير وسويته؟
السبب هو أن إسرائيل ـ لمن لا يعرف ولا يعلم بعد ـ تعرف هذه الإحداثيات بدقة أكبر بكثير وبما لا يقاس من أصحاب هذه المواقع نفسها. كيف؟
لو افترضنا أن أحد هذه المواقع يقع على تقاطع ما في أحد شوارع غزة ، فإن قاطن الموقع يعرف بالتقريب المسافة التي تفصل ما بين رصيف الشارع المقابل للمكان ومركز هذا المكان، أما إسرائيل فلديها القدرة على تحديد هذه المسافة ـ حسب الخارطة الجوية التي تجددها باستمرار ـ ليس بالأمتار وإنما بالسنتيمترات إذا لزم الأمر.
هذا إذا تعلق الأمر بمصطلح الإحداثيات، أما عندما يتعلق الأمر بتحديد هذه المواقع عموماً فإن أصحاب نظرية الإحداثيات ليس لديهم فكرة ـ على ما يبدو ـ عن القوة الاستخبارية الإسرائيلية التي تزودهم بما يلزم بصورة منتظمة ودورية بما في ذلك عناصر من داخل كل التنظيمات الفلسطينية وبدون استثناء، بل وخصوصاً من داخل التنظيمات التي لها تشكيلات عسكرية، وبدون استثناء أيضاً.
مضحك تماماً أن تتحول قضية إنهاء الانقسام إلى قضية هزلية وبهذا الأسلوب وهذه الذرائعية الساذجة. وبالعودة إلى جوهر الموضوع فإن إنهاء الانقسام بما ينطوي عليه الأمر من إعادة توحيد المؤسسة الوطنية وتوطيد أسس راسخة لنظام سياسي مستقر بات يتطلب الانطلاق من قواعد وأسس ومقاربات مختلفة عن كل ما جرى سابقاً بعد أن ثبت فشل كل المحاولات السابقة. هنا لا بد ـ على ما يبدو ـ أن نقرّ ونعترف ـ حتى نستطيع المواجهة الناجحة ـ بأن إنهاء الانقسام هو عملية وليس موضوعاً بحد ذاته.
بمعنى بات متعذراً كما تدل الوقائع أن يتم التوصل إلى حلول ناجعة لقضايا كبيرة باتت عميقة ومتجذّرة من الناحية الانقسامية بواسطة الصفقة الشاملة الكاملة النهائية، وإنما بات ممكناً فقط التوصل إلى نقاشات أولية حول القضايا الرئيسية وإلى حلول ملموسة متكاملة حول ملفات بعينها.
موانع التوصل إلى إنهاء الانقسام ستصل إلى درجة الانفصال إذا لم يتم «فكفكة» الملفات، وإذا لم يتم التعامل مع إنهاء الانقسام كحالة شراكة وطنية وليس كحالة محاصصة واقتسام «غنائم» أو غيرها.
إذا بقيت حركة حماس تدور حول مصالحها الخاصة ومكاسبها الخاصة فإن إنهاء الانقسام سيتحول إلى حالة مستحيلة، أما إذا حسمت أمرها باتجاه الشراكة والمشاركة في اطار المنظمة وعلى أساس برنامج الإجماع الوطني فإن البحث عن مصالح حركة حماس يصبح مشروعاً ومفهوماً.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية