من الغباء التساؤل، الذي يتكرر على ألسنة بعض الصحافيين، من ضمنهم من يعملون في وسائل إعلام أجنبية، وكأنهم ملزمون بملء فراغات. لا يزال البعض يتساءل عن أسباب جولات التصعيد، التي تقع على ضفتي الصراع سواء في الضفة الغربية و القدس أو في قطاع غزة . يتجاهل هؤلاء وغيرهم طبيعة الكفاح التحرري الذي يخوضه الشعب الفلسطيني من أجل نيل حريته واستقلاله على جزء من أرضه التاريخية وفي مجابهة استعمار استيطاني إلغائي، يقوم مشروعه الأول والأساسي على نفي وجود الشعب الفلسطيني عن أرض فلسطين.
لقد حاول الفلسطينيون إقامة سلام مجحف بحقهم انطلاقاً من حقوقهم التاريخية، وانسجاماً مع قرارات الشرعية الدولية، لكن العالم كله يعرف، حق المعرفة أن إسرائيل هي من أطاحت بكل إمكانية لتحقيق السلام.
بقي الصراع مفتوحاً على طريق واحدة، وهو طريق مصادرة الحقوق الفلسطينية بالقوة، وهو ذاته الطريق الذي يسير عليه الفلسطينيون باستخدام الحق في مواجهة القوة، ودون تجاهل إمكانية استخدام القوة أحياناً لمواجهة الجرائم العنصرية الإسرائيلية.
لا يحسب المسؤول عن تفجير الأوضاع، منذ يوم الجمعة الماضي، على أساس من بدأ بإطلاق النار، على الرغم من أن إسرائيل هي دائماً المسؤولة عن ذلك، عبر انتهاكات متواصلة، وحصار خانق تفرضه على قطاع غزة، من واقع استهدافها إدامة الانقسام الفلسطيني، وإضعاف الطرفين في غزة والضفة على حد سواء.
قبل الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وقعت جولة تصعيد، وتدخل لتهدئتها الطرف المصري مدعوماً بجهد أممي وقطري، حيث تم الاتفاق على تفاهمات مقبولة من الفلسطينيين، وبدا كأن نتنياهو يقبلها، أيضاً. حينذاك بدا كأن يد المقاومة كانت هي العليا، وأن الطرف الإسرائيلي كان في موقع الاستجابة لشروط فصائل المقاومة.
في ذلك الحين، كان نتنياهو يعاني أشد المعاناة في السباق على رئاسة الحكومة؛ حيث رغم كل ما أنجزه وكل ما قدم له ترامب من مكافآت، لم تكن لتجسر الهوة بينه وبين بني غانتس.
كان نتنياهو مضطراً لأن يبرد جبهة غزة، ولذلك وافق على التفاهمات التي خلص إليها الوفد الأمني المصري، ذلك أنه شعر بأن ثمة حاجة، لتحييد جبهة غزة، حتى لا تؤثر سلبياً عليه وعلى حزبه في الانتخابات. نجح في ذلك، وفرح الفلسطينيون، حين حصلوا على بعض الإجراءات البسيطة التي لا يحتاج تنفيذها إلى أيام كثيرة، ثم تجمّدت الأوضاع حتى انتهت الانتخابات وفاز نتنياهو.
الآن نتنياهو يشعر ويتصرف بارتياح؛ حيث أنه تحرر من ضغط الوضع مع قطاع غزة، وعاد ليتصرف وفق رؤيته الخاصة التي اقتضت أول ما اقتضت أن يتنصل من التفاهمات كلياً.
لم يبق من تلك التفاهمات سوى تحسن التيار الكهربائي، خصوصاً بعد أن أعاد مساحة الصيد البحري المسموح بها إلى ستة أميال.
هي عودة إلى نقطة البداية التي انتهت إليها الحرب الإسرائيلية على القطاع عام 2014. اتبع نتنياهو رسالة العودة، باستخدام عنف مفرط بحق نشطاء مسيرات العودة، يوم الجمعة الماضي، حيث سقط خمسة شهداء وأكثر من خمسين إصابة، معظمها إصابات خطرة، ودون أن يكون الفلسطينيون قد انتقلوا إلى استخدام الوسائل الخشنة.
كان لا بد من أن ينفجر الوضع من جديد ضمن جولة محسوبة لدى الطرفين. أراد نتنياهو أن يستعيد وضعية صاحب اليد العليا، والقرار والمبادرة، الرجل القوي الذي يحرص على تقديم الأمن على كل الأولويات الأخرى. وأراد نتنياهو، أيضاً، أن يعيد صياغة المعادلة في التعامل مع قطاع غزة، إلى صيغة هدوء مقابل هدوء. الهدوء المطلوب من قبل إسرائيل هو أن يتوقف الفلسطينيون عن نشاطات وفعاليات مسيرات العودة من أساسها، وليس فقط وقف الوسائل الخشنة وأراد أن يستبق فعاليات "يوم النكبة ".
غير أن نتنياهو اختار التوقيت الخاطئ، حيث إن إسرائيل تحتاج إلى الهدوء وهي تحضر لإقامة مهرجان الأغنية الأوروبية، الذي يتطلب توفر ظروف أمنية تسمح لمئات آلاف السياح الأجانب للذهاب إلى إسرائيل. هذا الظرف جعل فصائل المقاومة تبني حساباتها على أساس أن لديها فرصة للضغط على إسرائيل باعتبار أنها لا ترغب في تصعيد الأوضاع على نحو شامل مع قطاع غزة.
كان الرد قوياً وساخناً ومتواصلاً من قبل فصائل المقاومة على القصف الإسرائيلي، أملاً بإرغام نتنياهو على العودة إلى التفاهمات السابقة. هذا يعني أن الطرفين بقيا عالقين، ذلك أن إسرائيل لا ترغب في العودة إلى التفاهمات السابقة، حيث ستبدو على أنها خضعت لحسابات الفصائل ولا هي ترغب في توسيع دائرة العدوان بشكل شامل. الفصائل هي الأخرى، لم تعد تقبل بأن يفرض عليها نتنياهو صيغة هدوء مقابل هدوء، ولا هي أيضاً بصدد تصعيد الوضع على نحو شامل. هنا ثمة جدوى من التدخل المصري المدفوع بالمسؤولية القومية والمسؤولية الوطنية؛ على اعتبار أن ما يجري يدخل ضمن أمنها القومي. 
حتى كتابة هذا المقال لا يبدو أن للوضع مخرجاً، إذ لا تستجيب إسرائيل للدعوة المصرية، فيما تصر الفصائل على أن العودة للهدوء مرهونة بتلبية إسرائيل لطلباتها. إذاً نحن أمام جولة قاسية من غير المرجّح أن تستمر لفترة طويلة، ولكن الخشية في أن يعود نتنياهو للمناورة، والموافقة على بعض الشروط تاركاً أمر التنصل منها إلى وقت آخر، خاصة في غياب ضمانات إلزامها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد