أجد نفسي مضطرًّا، مرة تلو أخرى، إلى أن أُعيد فتح ملف “ صفقة القرن ”، ذلك التعبير الذي حظي باهتمام إعلامي قد يكون غير مسبوق خلال الفترة الأخيرة على المستويين الإقليمي والدولي، رغم أن هذه الصفقة لم يتم طرحها رسميًّا حتى الآن. غير أن المتابعين والمتخصصين في الملف الإسرائيلي الفلسطيني تنافسوا في الحديث عنها، واعتبرها معظمهم صفقة مشبوهة أو منقوصة. ثم وصل الأمر إلى قيام بعض الأطراف المعنية بإعلان رفضهم لها. وسوف أحاول في هذا المقال التعرض للصفقة بالتوضيح والشرح بقدر ما توافر بشأنها من معلومات محدودة ومعلنة، وذلك بهدف وضع تصور لإطار ومبادئ الصفقة، وبما يسمح لنا ببلورة بعض المقترحات لكيفية التعامل معها بعد طرحها، وهذا هو الجانب الأهم في موضوع الصفقة كلها.

مفهوم الصفقة

بداية، يجب أن نحدد ماذا تعني “صفقة القرن”، وما هو مفهومها؟ وفي رأيي فإن الصفقة عبارة عن رؤية أو خطة سلام أمريكية لحل الصراع العربي-الإسرائيلي مع التركيز على حل القضية الفلسطينية، وبما يهيئ المجال أمام تحقيق الاستقرار ودعم الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، ومواجهة عوامل التوتر فيها، ولا سيما إيران والإرهاب، بالإضافة إلى العمل على تثبيت الوضعية السياسية لإسرائيل حتى تندمج بشكل طبيعي في المنظومة العربية والإقليمية.

وقد اتجهت الولايات المتحدة إلى بلورة هذه الصفقة بعد تولي الإدارة الأمريكية الحالية بأسابيع قليلة من خلال تكوين مجموعة عمل خاصة من البيت الأبيض، يقودها كل من “جيسون جرينبلات”، و”جاريد كوشنير”، حيث تحركت بكثافة وفي جولات مكوكية متعددة مع الأطراف المعنية في المنطقة على مدار أكثر من عامين حتى توصلت في النهاية إلى تلك الرؤية السياسية المقرر طرحها.

توقيت طرح الصفقة

كان من المقرر أن تقوم واشنطن بطرح الصفقة في بداية العام الجاري 2019؛ إلا أن تقديم موعد الانتخابات الإسرائيلية كان عاملًا رئيسيًّا في تأجيلها. ومن ثم، فإن طرح الصفقة سوف يتم بعد فترة قصيرة من تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، خاصة أن كافة المباحثات التي أجراها طاقم العمل الأمريكي كانت مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو”، وبما يفسر أحد أهم أسباب الدعم الأمريكي غير المحدود من أجل إعادة انتخاب “نتنياهو” باعتباره أحد المخاطبين الرئيسيين بالصفقة.

كما يمكن القول إن عملية التأجيل قد تكون ارتبطت أيضًا بحرص الولايات المتحدة على إدخال بعض التعديلات على الصفقة قبل طرحها رسميًّا في ضوء المواقف التي أعلنها الزعماء العرب وهم يعيدون التأكيد على رؤيتهم لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، والتمسك بمبادرة السلام العربية التي من المؤكد وجود تعارض كبير بينها وبين مضمون الصفقة.

المبادئ الحاكمة للصفقة

في ضوء التصريحات المختلفة التي أعلنها طاقم العمل الأمريكي في أكثر من مناسبة، يمكن تقدير أن هناك مجموعة من المبادئ الرئيسية التي استندت عليها الصفقة. وفي رأيي، يمكن تصور ستة مبادئ منها على النحو التالي:

المبدأ الأول: أن كافة الحلول القديمة لم تنجح في إنهاء الصراع، وبالتالي كان لا بد من التفكير في حلول جديدة غير تقليدية يمكن أن تكون أكثر فعالية من ذي قبل، وهو ما سيتطلب تنازلات متبادلة قد لا تَرضى عنها أطراف النزاع، ولكنها تبقى ضرورية للحل.

المبدأ الثاني: أن الوضع الراهن في المناطق العربية المحتلة، أو بعبارة أدق الأمر الواقع هناك، سوف يكون أحد أهم أسس الصفقة، بحيث إن التغييرات التي حدثت على الأرض لن يتم تجاهلها، وستكون حاضرة بقوة في مضمون الصفقة وتفصيلاتها.

المبدأ الثالث: أن الأمن الإسرائيلي يعتبر العامل الرئيسي الذي تستند عليه الصفقة، باعتبار أن ضمان أمن إسرائيل يُعد التزامًا أمريكيًّا لن يقبل أي تنازل جوهري، سواء من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة.

المبدأ الرابع: أن التنمية الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة ستحظى بالاهتمام الأكبر في الصفقة، وهو ما يعني أن فكرة السلام الاقتصادي ستكون بمثابة أحد المفاتيح الرئيسية للصفقة مقارنة بالجانب السياسي والتسوية السياسية التي يمكن أن تأتي في مرحلة تالية أو متأخرة نسبيًّا بعد وضوح النتائج الاقتصادية على الأرض.

المبدأ الخامس: أن مبدأ حل الدولتين لا يُعد بمثابة المبدأ المقدس لحل القضية الفلسطينية، ولكن قد يكون هناك اقتراب من هذا المبدأ، بمعنى القبول بإقامة دولة فلسطينية ولكنها ليست بالشكل الذي يتصوره العرب والفلسطينيون.

المبدأ السادس: أن هناك بعض القضايا التي تُسمى قضايا الوضع النهائي، مثل القدس واللاجئين، لا يمكن حلها طبقًا للرؤية العربية؛ فالقدس بشكلها الحالي أصبحت عاصمة لإسرائيل وغير قابلة للتقسيم. كما أن مشكلة اللاجئين يمكن حلها من خلال تنفيذ إجراءات أخرى مثل سياسة التوطين، أي توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول المتواجدين فيها. ويمكن أن توفر الولايات المتحدة الدعم المادي اللازم لهذا التوطين.

في ضوء ما سبق، يمكن القول إننا أمام رؤية أمريكية للحل، تقفز بعيدًا عن مقررات الشرعية الدولية، وعن الرؤية العربية المتمثلة في مبادرة السلام العربية، وهي رؤية تُسقط مبدأ الدولة المستقلة ذات السيادة والمتواصلة الأطراف وعاصمتها القدس الشرقية. كما تُسقط أيضًا أهم قضيتين من قضايا الوضع النهائي، وهما: القدس، واللاجئون. كما تُعطي مسألة أمن إسرائيل أولوية على ما عداها من اعتبارات، وبالتالي لا يتبقى أمام الفلسطينيين سوى ما يمكن أن نسميه “شبه دولة” أو “دويلة” منزوعة من أهم مقوماتها الرئيسية، بالإضافة إلى التركيز على الجانب الاقتصادي.

أسلوب مقترح للتعامل مع الصفقة

لا شك أن التحدي الرئيسي الماثل أمامنا هو: كيف يمكن للعرب والفلسطينيين التعامل مع الصفقة عقب طرحها رسميًّا؟ في هذا المجال أود التأكيد على اعتبارين رئيسيين:

الاعتبار الأول: أن الأمر غير المنطقي وغير المقبول أن يعلن الفلسطينيون أو العرب رفضهم للصفقة قبل أن يطلعوا عليها بصورة رسمية، حيث إن الرفض المسبق سيكون نقطة سلبية تُحسب على الدول العربية كلها، وبما يؤكد المزاعم الإسرائيلية والأمريكية بأن الجانب الفلسطيني تحديدًا غير راغب في السلام. ومن ثم، يجب أن يكون هناك التزام وإلزام بألا تصدر أية تصريحات رسمية تتناول الصفقة بصورة مباشرة سلبية كانت أم إيجابية، بل يجب تجاهل التعرض لها تمامًا، حيث إن إعلان الرفض بالشكل الجاري حاليًّا يُعرّضنا لخسائر مجانية نحن في غنى عنها.

الاعتبار الثاني: أن الزعامات العربية لم تقدم تنازلات تجاه القضية الفلسطينية، ولا تزال تتمسك بمبادرة السلام التي تتحدث عن سلام كامل مقابل انسحاب كامل، ودولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وبالتالي لن تقدم هذه الزعامات مهما كانت الضغوط على قبول أية خطة سلام لا تحظى بقبول فلسطيني. وهنا أطالب الجميع بالتمعن في قراءة البيان الإيجابي الصادر عن مجلس الجامعة العربية في 21 أبريل في أعقاب الاجتماع الطارئ على المستوى الوزاري بحضور الرئيس “أبو مازن”، والذي تضمن إعادة التأكيد على الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية بصورة شديدة الوضوح، والذي تضمن في بنده الأول من بنود البيان السبعة أن الدول العربية لا يمكنها أن تقبل أية خطة أو صفقة لا تنسجم مع المرجعيات الدولية.

ولعل هناك نقطة أخرى مهمة يجب أخذها في الاعتبار وهي أن الائتلاف الإسرائيلي القادم سيكون ائتلافا شديد التطرف. ومن المؤكد أن بعض مكوناته لن تقبل الصفقة مهما تضمنت من نقاط عديدة لصالح إسرائيل، وهو الأمر الذي يفرض على الفلسطينيين العمل على تصدير أزمة ما بعد طرح الصفقة إلى الجانب الإسرائيلي. وقد يصل الأمر إلى رفض إسرائيلي واضح لها يوفر كثيرًا من السلبيات التي ستترتب على الموقف العربي في حالة رفض الصفقة دون دراستها. وأعتقد أن هذه مرحلة مهمة يجب أن نديرها بذكاءٍ وتأنٍّ.

من الضروري أن نضع الصفقة في حجمها الطبيعي باعتبارها مجرد مقترح لخطة سلام مهما كانت بنودها سيئة أو مجحفة أو جيدة. وتظل الصفقة قابلة للنقاش والتفاوض والحوار والقبول والرفض. كما يجب أن نكون على قناعة بأنه من المستحيل أن يتم فرضها بالقوة.

وفي رأيي، يمكن التعامل مع الصفقة في أعقاب طرحها رسميًّا طبقًا للمراحل الثلاث التالية:

المرحلة الأولى: وتتمثل في قيام الجانبين العربي والفلسطيني بتشكيل لجنة سياسية وفنية على مستوى عالٍ لدراسة الصفقة بصورة تفصيلية، وتأخذ وقتًا كافيًا ليصدر عنها تقرير يتم توجيهه إلى الإدارة الأمريكية باعتبارها الجهة الطارحة للخطة، يتناول ثلاثة جوانب أساسية: نقاط التوافق، ونقاط الاختلاف، والنقاط المطلوب تعديلها. على أن يكون لهذه اللجنة حرية الحركة والقدرة على التنسيق والتشاور مع الأطراف التي تراها ضرورية.

المرحلة الثانية: دراسة رد الفعل الأمريكي على تقرير اللجنة العربية الفلسطينية، وتقييم مدى وجود تقدم في الرد الأمريكي من عدمه. كما يمكن مواصلة التشاور مع واشنطن حتى يتم الوصول إلى التوافق على الملاحظات أو التحفظات العربية من عدمه.

المرحلة الثالثة: في حالة انتهاء مرحلة الردود والتعديلات، يصبح على الجانب العربي تقدير مدى تمشِّي الصفقة مع الموقفين العربي والفلسطيني؛ فإذا كانت مرضية يتم إعلان الموافقة عليها، وإذا كان الأمر غير ذلك فلا مفر من إعلان عدم قبولها بشكلها الحالي، ولكن بعد أن يكون العرب قد استنفدوا كافة السبل والجهود لجعلها قابلة للتنفيذ دون جدوى، مع إظهار أن الصفقة لا تلبي أدنى الطموحات الفلسطينية وتتجاهل مقررات الشرعية الدولية. وهنا سيكون الموقف العربي والفلسطيني في وضع أكثر إيجابية وأكثر قبولًا من المجتمع الدولي الذي لا يزال يُطالب بتطبيق المرجعيات الدولية لحل القضية الفلسطينية.

وإذا سلمنا بأن الأمور قد تصل بنا إلى رفض الصفقة، يصبح لزامًا على العرب والفلسطينيين أن يمتلكوا ويعلنوا طرحًا سياسيًّا بديلًا حتى لا يصل الوضع إلى طريق مسدود، خاصة مع الولايات المتحدة التي يجب أن نحرص على تجنب الصدام معها من خلال الحوار الهادئ البناء مع مسئوليها، وخاصة توضيح مخاطر استمرار الوضع الراهن دون حلٍّ عادل للقضية الفلسطينية يحقق أمنًا واستقرارًا حقيقيًّا في المنطقة.

ومن ثم، فإن الجانب العربي مطالب بإعادة طرح رؤيته لتسوية الصراع من خلال تحديد مسارين رئيسيين؛ أولهما: إطار الحل، وثانيهما: آلية التنفيذ. الإطار هو المبادئ التي تضمنتها مبادرة السلام العربية، أما آلية التنفيذ فهي إعلان الاستعداد الفوري لاستئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية دون شروط مسبقة، على أن تناقش هذه المفاوضات كافة القضايا دون استثناء، وعلى الجميع أن يمنح عملية التفاوض فرصة جديدة للتوصل إلى حلول قد تكون مقبولة من الأطراف.

وفي ضوء ما سبق، نحن أمام أربعة تحديات صعبة في الوقت الراهن. التحدي الأول: إدارة أمريكية شديدة التحيز لإسرائيل. التحدي الثاني: ائتلاف إسرائيلي قادم عنوانه الرئيسي لا لعملية سلام ولا لدولة فلسطينية. التحدي الثالث: موقف عربي في أضعف مراحله. التحدي الرابع: هو صفقة قرن قادمة قد تُنهي القضية الفلسطينية إن لم نتعامل معها بذكاء ودون تصعيد غير محسوب أو مطلوب.

في النهاية، لا تزال قناعتي التامة غير القابلة للشك تتمثل في أن القيادات العربية بزعامة مصر ورئيسها الوطني “عبدالفتاح السيسي” سوف تحافظ على الثوابت الفلسطينية دون أي تنازل، كما تحافظ على الأمن القومي العربي والمصري. كما أني أومن تمامًا بأن هذه الصفقة ما دامت كتابًا غير مقدس أو رسالة غير سماوية، فإننا قادرون على مواجهتها حتى ولو كان الأمر صعبًا، ولكنه بالقطع لن يكون مستحيلًا ما دام عنوان المواجهة سيكون العقلانية والموضوعية ووحدة الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد