يختلف حراك "بدنا نعيش" الذي قام بأول وأهمّ نشاطاته في شوارع قطاع غزة ، نهاية الأسبوع المنصرم، عن الحراكات الشبابية، السابقة، التي ظهرت واختفت إما بسبب القمع الذي مارسته الأجهزة الأمنية في غزة، وإما بسبب غياب الغطاء السياسي، أو لأن بعضها لم يكن أكثر من قنابل صوتية.
حراك "بدنا نعيش"، يستمد مبرر انطلاقه، والأرجح استمراره حتى بفترات متقطعة، انطلاقاً من كونه حراكاً شبابياً ذا أبعاد شعبية تتصل بوصول أوضاع الناس في القطاع الى مستويات مزرية، وبعد فقدان الأمل في إنهاء الانقسام، ذلك الهدف الذي حملته الحراكات السابقة.
حين يكون الجوع والفقر والحرمان من ابسط مقومات الحياة فإن من يعانون من ذلك وهم ليسوا أفراداً، بل يشمل فئات واسعة من المجتمع، فإن أبسط التعبيرات عن تلك الأوجاع هو أن يصرخ الناس، طالما أن "الله لا يسمع من ساكت".
الناس في غزة، فقدوا الثقة بالفصائل، والنخب السياسية، وفقدوا الأمل بإمكانية تغيير الواقع الذي يزداد تردياً، يوماً بعد الآخر، في ظل استمرار الانقسام، وطغيان الشعارات الثورية فارغة المضمون ما يجعلهم إما أن يخرجوا إلى الشوارع، وهم لا يخسرون إلا فقرهم وذلهم، أو أن يخرجوا من البلاد، حتى لو أكلتهم أسماك القرش. كان لا بد لحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة منذ اثني عشر عاماً، وهي المسؤول المباشر عن حياة الناس في القطاع أن تقرأ الواقع، ومآلاته على نحو موضوعي لأن الانفجار الذي توقعه الكثيرون في أوقات سابقة، كان سيحدث إما في وجه إسرائيل المحتلة او في وجه سلطة الأمر الواقع.
مسيرات العودة قبل عام. شكلت المخرج، حيث استقطبت، غضب الشباب، ورضاهم في الوقت ذاته، باعتبار انخراطهم فيها ينطوي على قيمة وطنية طالما أنها في مواجهة الاحتلال، الذي هو السبب الرئيسي في معاناة الشعب الفلسطيني.
أما الفصائل فقد وجدت هي الأخرى ضالتها، في اختيار شكل نضالي سلمي مهم، يمكنها من تغيير الصورة النمطية المعروفة عن هذه الفصائل بما أنها فصائل مقاومة عنيفة، وأيضاً من التأثير لصالحها في معادلة التوازن في العلاقات الداخلية، بالإضافة إلى المراهنة على إمكانية تحقيق هدف كسر الحصار، أو تخفيفه على نحو متدرّج.
كان ثمن هذا الحراك الشعبي السلمي باهظ التكلفة، حيث سقط أكثر من مئتين وخمسين شهيداً، ونحو ثلاثين ألف جريح ومصاب، الأمر الذي جعل المشهد الاجتماعي في القطاع أكثر مأساوية حيث تظهر في شوارعه بوضوح، أعداد كبيرة من المتسولين، وأعداد أخرى من المعاقين حركياً، لكن الناس كانوا مستعدين للمواصلة. بعد عام على انطلاق مسيرات العودة، وما أحدثته من آثار على مستوى التضامن الدولي، وتأكيد إصرار الشعب الفلسطيني على الاستمرار بالنضال من أجل حقوقه وفي مواجهة " صفقة القرن "، تحول هذا النشاط إلى عمل روتيني، لا يثير انتباه الكثيرين من القوى الشعبية أو الرسمية المتفاعلة مع الشعب الفلسطيني وقضيته.
لكن البدايات والاستمرارية، لم تكن لتقف عند هذه الحدود فلقد ظلت المسيرات مدفوعة بأمل كسر الحصار وتغيير واقع الحال في القطاع غير أن النتائج جاءت مخيبة للآمال.
عملياً، لم تستجب بقية التجمعات الفلسطينية الأخرى، لمجاراة نشاط المسيرات، إلاّ عبر أشكال ضعيفة من التضامن، وكان الأمل أن يكون الفعل وطنياً شاملاً، ولم يؤد استمرار النشاط إلى تقريب المصالحة الوطنية، ولا إلى كسر الحصار.
تلاعبت إسرائيل بالوضع، وتملصت من كل محاولات التوصل إلى تهدئة مقابل تخفيف الحصار، وأرادت كل الوقت أن تحصل على معادلة "هدوء مقابل هدوء"، حتى لا يبدو على أنها خضعت لإرادة "حماس" والفصائل، وبدلاً من تخفيف الضائقة المعيشية على الناس ازدادت الأمور تدهوراً.
حركة حماس التي تسيطر على القطاع حاولت جاهدة أن تتصدى لمحاولات الضغط عليها، فلم تجد سبيلاً إلى ذلك، إلاّ من خلال الضغط على الناس بمزيد من الضرائب والرسوم لتغطية نفقاتها، في حين تفتقر إلى إمكانيات تقديم الخدمات للمجتمع إلاّ من خلال الأمن. هكذا بدت "حماس" التي يعاني موظفوها أيضاً بسبب تدني رواتبهم، على أنها تدير جماعة ولا تدير مجتمعاً فالأولوية هي للصرف على موظفيها.
هذه هي الأسباب التي تقف وراء انفجار الأوضاع في القطاع، ولم يكن ذلك لا بقرار من "فتح"، أو السلطة، أو حتى الفصائل الأخرى التي وجدت نفسها في موقع الاستجابة لحركة الشارع، الأمر الذي ينفي كل الادعاءات التي ترمي الحراك على أنه مسيس وموظف من قبل جهات من قبل خصوم "حماس".
في مواجهة ذلك، قدمت "حماس" نفسها على حركة الأمس واليوم وغداً عبر المراهنة على الحلول الأمنية، باستخدام القوة لقمع وإخافة الشباب وملاحقتهم، حتى لا يعودوا للتفكير بالعودة مرة أخرى. على أن القمع هذه المرة، كان أعمى، حيث شمل كثيراً من الصحافيين والحقوقيين، واقتحام بيوت العديد من النشطاء، ومنع وسائل الإعلام من تغطية الأحداث، حيثما أمكن.
يغيب عن صانع القرار في "حماس"، أن الضحايا المستهدفين والمتهمين هم أبطال الأمس على الحدود، ويغيب عنها استهتارها واتهاماتها لشركائها من الفصائل سواء في السياسة أو في حراك مسيرات العودة.
غير أن الأهم الذي يغيب عن صانع القرار هو أن الجماهير حين تخرج إلى الشوارع، ستكون بقوة شلال الماء الهادر الذي لا يقف في وجهه حجر أو صخر. عملياً، الحراك الشبابي يلقي بحجر كبير في المياه له ما بعده بما يختلف عن قبله إذ من غير المتوقع أن تبقى العلاقة بين الفصائل كما كانت قبل الحراك، وقد ينعكس الأمر على زخم مسيرات العودة خلال الأسابيع القادمة في الاتجاه السلبي.
يحتاج الناس إلى تبرير منطقي وخطاب إيجابي، وتفاعل مجتمعي، وإجراءات تخفيفية حتى لو كانت محدودة، وقبل ذلك الاعتذار من الناس ووقف الحملات الإعلامية والتحريضية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية