يسجل للدكتور محمد اشتية قبوله لتحدي رئاسة الحكومة في هذه الظروف، ويسجل له هذه الروح الوثّابة المفعمة بالوطنية الفلسطينية، وإيمانه بالناس، والمراهنة على وعيهم وكفاحيتهم وحرصهم على المشروع الوطني.
هناك ما يشبه الاجماع على ان اختيار الرئيس للدكتور اشتية كان الأنسب لهذه المرحلة من كل الجوانب والزوايا والاعتبارات، السياسية الوطنية، والتنموية الاقتصادية، وكذلك ذهنيته المنفتحة على كل الأطياف السياسية والمكونات الاجتماعية.
السؤال الذي يدور في خلد الناس، هو فيما إذا كانت الحكومة القادمة قادرة أو ستكون قادرة على مواجهة العاصفة من التحديات، إن لم نقل هذا الإعصار الذي يقترب مسرعاً نحو التخوم الفلسطينية والذي ينذر بضرب مفاصل رئيسية من مشروعنا الوطني.
الجواب على هذا السؤال ما زال قيد التبلور.
لكن يمكن رصد وملاحظة ثلاثة اتجاهات للإجابة عليه:
الاتجاه الأول، يرى أن التحديات أكبر من أية حكومة، وأن مواجهة الإعصار ستؤدي إلى تقويض السلطة الوطنية، وإن «من الأفضل» أن نجيد «فنّ» الانحناء بدلاً من التمترس في وجه هذا الإعصار.
الاتجاه الثاني، يرى أن لا أمل يرجى من وراء المواجهة إلاّ إذا تبنت الحكومة سياسات «جديدة» بالكامل، وبما يقطع مع كل الماضي ويؤسِّس ويؤسَّس على استراتيجيات جديدة وبحيث تكون هذه الحكومة نتاجاً لعملية التوحد وإعادة توحيد كل الحالة الوطنية، بما في ذلك المشاركة الكاملة والتامة من كل الأطياف بدون استثناء.
أما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه الذي يرى ويدرك الأخطار المحدقة بالمشروع الوطني، ويرى ويدرك صعوبات تجاوز حالة الانقسام القائمة، ويعرف الثمن الذي سيدفع في مواجهتها، ولكنه ليس يائساً ولا مستكيناً، ويعرف حدود الإمكانيات التي يمتلكها، ويراهن على قدرته في الصمود وكسر الحلقة الأقوى في مخطط تصفية المشروع الوطني بدون تطرف أو تطيّر، وبدون قطع مع ما راكمناه من مكاسب وما فرضناه من حقائق واستحقاقات.
الاتجاه الثالث، والذي تُعبّر عنه حكومة الدكتور اشتية القادمة، هو انعكاس للاتجاه المركزي في منظمة التحرير، وانعكاس مباشر لموقف الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة الخطيرة.
وقيمة وقوة هذا الاتجاه تكمن في أنه (أي الاتجاه) يلحظ الوجاهة المتضمنة في الاتجاه الأول لجهة ما يمكن أن تنطوي عليه عملية المواجهة مع الإعصار الأميركي الإسرائيلي وهجومه على مشروعنا الوطني، ولكنه لا ينحني ولا ييأس ولا يستنكف ولا يستكين، كما أن من مظاهر قوة وصلابة هذا الاتجاه هو أنه يرى ويلحظ الوجاهة الكامنة في الاتجاه الثاني، وذلك لجهة الأهمية القصوى التي باتت أكثر من ضرورية لحسم كل ما يمكن حسمه ولقطع كل ما يمكن قطعه في العلاقة مع الاحتلال وأدواته، ولكن وهنا، أيضاً، بمسؤولية وبتقدير دقيق للتبعات وبخطوات واعية نحو كل ما يصلّب الموقف ويعزز القدرة على المواجهة والصمود. وبصراحة فإن المسؤولية الوطنية هي ما يجب أن يُفهم من السياق الذي أتت فيه هذه الحكومة، أو انها ستعبر بصورة مباشرة عن هذه المسؤولية بالذات.
فترك الساحة الوطنية على غاربها ليس موقفاً وطنياً، وإبقاء حالة النظام السياسي الفلسطيني على هذه الدرجة من الهشاشة والضعف ليس موقفاً وطنياً ولا ديمقراطياً. والارتهان إلى «حق» الفيتو في العمل الوطني التحرري وفي الظروف الصعبة والدقيقة [وفي كل الظروف] ليس تعبيراً عن «نضج» ديمقراطي، خصوصاً عندما نعرف ونلمس بأيدينا أن هذا الفيتو خارجي الأصل والمنشأ، وانه ليس أكثر من سياق لأجندات ليست فلسطينية، وقد لا تكون بعيدة عن أجندة «الإعصار» الذي أتينا عليه، هذا إذا لم تكن إحدى أدواته وأوراقه.
هذه المسألة بالذات لم تعد مسألة للمماحكة أو حتى للمناكفة السياسية.
فعندما يعلن نتنياهو على رؤوس الأشهاد، أن الأموال القطرية تأتي بالنسبة لإسرائيل من أجل تعزيز وتكريس حالة الانقسام، ومن أجل منع قيام دولة فلسطينية، وأنها (أي الأموال) موظفة في خدمة المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية، لا تعود المسألة مسألة سجال سياسي وإنما تصبح وتتحول إلى مسألة موقف وطني أو موقف (معاد) للوطنية.
إذاً هذه الحكومة ليست حكومة (إلى أن تفرج)، وليست حكومة «تسكيج» أحوال، وليست حكومة «هيمنة» فتح واستفرادها كما يحاول أن يوحي البعض.
هي حكومة على العكس من ذلك كله، وهذا هو المفترض وهذا هو المؤمّل.
فهذه الحكومة مطالبة كما هو واضح بمواجهة استحقاقات الحصار المالي، والبحث عن مكامن القدرة وتوظيفها في عملية صمود وطني حقيقي، وهي حكومة الدفاع عن الأسرى والشهداء والجرحى، وحكومة التحضير للانتخابات، وحكومة الحوار الوطني مع كل الأطياف السياسية، والتشاور مع المكوّنات الاجتماعية والمجتمعية، وهي حكومة المساهمة المباشرة والفاعلة في إعادة بناء النظام السياسي.
و»فتح» إن كان لها من دور فاعل وكبير (وهي لها مثل هذا الدور) فهو دور تحمُّل المسؤولية الوطنية لكي تكون الحكومة فعلاً بمستوى هذه المهام.
ولهذا فإن حكومتنا الجديدة القادمة هي حكومة الفرصة التي خلقتها التحدّيات، ونحن جميعاً مطالبون أن ننظر إليها وأن نحاسبها على هذا الأساس ووفق هذه المعايير.
التحديات كبيرة والمسؤولية ثقيلة ولكن الوطنية الفلسطينية ما زالت تنبض بالحياة وبالقدرة على العطاء.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد