أيام قليلة تفصلنا عن القمة العربية الثلاثين المقرر عقدها في تونس، وهي قمة أرى أنها ذات أهمية كبيرة في ظل التحديات التي تواجهها المنطقة العربية بصفة عامة، والقضية الفلسطينية بصفة خاصة، الأمر الذي يتطلب من القمة أن تتعامل مع هذه القضية وتطوراتها بقدرٍ يتناسب مع ما تواجهه من تحديات ومخاطر من المؤكد أنها ستؤثر سلبًا على مستقبلها إذا لم نواجهها بالحذر والجهد والفكر والتحرك الملائم.
بدايةً، من الضروري الإشارة إلى أن هذه القمة تُعقد في ظروف شديدة التعقيد ارتباطًا بالقضية الفلسطينية. وهنا أود التركيز على العاملين الرئيسيين التاليين:
العامل الأول:
هو اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية التي ستشهد تصارعًا ومنافسة بين الأحزاب الرئيسية حول من يستطيع أن يدحض فكرة الدولة الفلسطينية تحت دعاوى متطلبات وضرورات الحفاظ على الأمن الإسرائيلي. وبمعنى أدق، فإن التنافس في هذه الانتخابات سيتركز على من لديه القدرة على القضاء على ما تبقّى من أمل لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصتها القدس الشرقية.
العامل الثاني:
يتعلق بتأكيد الولايات المتحدة أنها بصدد طرح رؤيتها لتسوية القضية الفلسطينية، والمعروفة باسم “ صفقة القرن ”، وهي في كل الأحوال لن تُطرح رسميًّا قبل تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، أي في منتصف العام الحالي. وإذا كنا لا نملك معلومات محددة عن بنود هذه الصفقة؛ إلا أن كل ما يُتاح عنها، والذي يأتي أغلبه في شكل تسريبات أو بالونات اختبار؛ لا يلبي المطالب العربية والفلسطينية، وهو ما تؤكده المواقف التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي المتحيزة لإسرائيل، خاصة في أهم قضيتين هما: القدس، واللاجئون.
وفي الوقت نفسه، قد لا أتفق تمامًا مع الكثيرين الذين يرون أن القمم العربية السابقة كانت غير ذات جدوى فيما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية. فمن الإنصاف أن أستذكر هنا إنجازين رئيسيين حققتهما القمم السابقة.
الأول:
تقديم العديد من أوجه الدعم المادي (المقدر بملايين الدولارات) لدعم صمود سكان القدس في مواجهة مخططات التهويد الإسرائيلية التي ركزت منذ 1967 على مدينة القدس، وضم شقيها الشرقي والغربي، واعتبارها عاصمة أبدية للدولة، وسريان قطار التهويد فيها بسرعة لم نستطع للأسف اللحاق به أو وقفه أو مواجهته بالقدر المطلوب.
الثاني:
طرح مبادرة السلام العربية في قمة بيروت 2002، والتي حظيت بإجماع الدول العربية آنذاك، وهي مبادرة تُمثل -في رأيي- أفضل وأشمل نموذج ورؤية عربية واقعية طُرحت لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، لا سيما وأنها قد تواءمت مع الرؤية الدولية للتسوية السياسية التي ترتكز على مبدأ الأرض مقابل السلام، ومبدأ حل الدولتين.
ورغم هذه المواقف العربية المتقدمة، إلا أنني لا أعفي الدول العربية من مسئولية عدم القدرة على تحويل هذه القرارت الإيجابية إلى واقع على الأرض، أو إلى آليات قابلة للتنفيذ، أو إصرار على التطبيق العملي، ما فتح المجال أمام إسرائيل للانفراد بالفلسطينيين وتنفيذ سياساتها كما تشاء على مدار سنوات طويلة، حتى جاءت إدارة الرئيس “ترامب” لتتناغم مع الحكومة الإسرائيلية، وتتخذ نفس مواقفها المتشددة، ليس فقط ضد القضية أو السلطة الفلسطينية ولكن أيضًا ضد الشعب الفلسطيني الذي يفقد أمله يومًا بعد يوم في الحصول على أدنى الحقوق التي يُنادي بها العالم المتحضر، بأن تكون له دولته المستقلة مثله مثل باقي شعوب العالم.
وحتى أكون أكثر إنصافًا وتشجيعًا ودعمًا للموقف العربي، فإنني لا بد هنا أن أشير إلى أهم المواقف العربية التي تم الإعلان عنها في القمة العربية-الأوروبية الأولى والناجحة التي عُقدت مؤخرًا في شرم الشيخ، حيث أكد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” أن القضية الفلسطينية تمثل القضية العربية المركزية الأولى، وشدد على ضرورة التوصل إلى تسوية سياسية شاملة وعادلة على أساس مرجعيات الشرعية الدولية. كما أكد الرئيس الفلسطيني “أبو مازن” أن الحديث حول “صفقة القرن” أو أية خطة سلام لا تستند إلى قرارات الشرعية الدولية لن تنجح ما لم ينتج عنها دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية، وهي نفس المفاهيم والمعاني والمواقف التي تحدث عنها خادم الحرمين الشريفين والعديد من القادة والزعامات العربية التي شاركت في هذه القمة.
إذن، نحن أمام مواقف عربية وفلسطينية واضحة ومحددة تمامًا صدرت عن أهم القادة العرب في قمة شهدها العالم أجمع. وبالتالي، يتبقى لدينا سؤال شديد الأهمية، وهو: هل يمكن أن تتم ترجمة هذه المواقف إلى مبادئ ثابتة في قمة تونس المقبلة؟ ثم كيف يمكن أن يتم ذلك في وقتٍ نرى فيه أن هناك توجهات إسرائيلية وأمريكية تحاول تغيير هذه المواقف؟ بل ممارسة بعض الضغوط حتى يتبنى العرب رؤية جديدة للتسوية السياسية من المؤكد أنها تتعارض مع مواقفهم. ومن ذلك على سبيل المثال ثلاثة مواقف مغايرة، أولها: إسقاط واشنطن قضيتي القدس واللاجئين من قضايا الوضع النهائي الثمانية. وثانيها: محاولة واشنطن وتل أبيب التركيز على ما يسمى بالسلام الاقتصادي بديلًا عن الحديث عن عملية السلام بمفهومها السياسي المعروف. وثالثها: المحاولات المستميتة من جانب إسرائيل للبدء بالتطبيع مع العرب قبل تحقيق السلام، أي قلب المبادرة العربية للسلام رأسًا على عقب.
ونأتي في النهاية إلى السؤال المنطقي: ما دامت الأمور بهذا الوضوح، ما هو المطلوب تحديدًا من القمة العربية؟ أخذًا في الاعتبار أن الوضع العربي ليس في أفضل حالاته في الوقت الراهن. ومع تسليمي بصحة هذا التوصيف، ومع قناعتي أيضًا بأنه ليس من العدل تحميل الموقف العربي فوق طاقاته في هذه الظروف الصعبة، فإنني أطلب من القمة العربية القادمة ما يمكن أن أسميه بأضعف الإيمان، ومفاده ألا تتخلى عن تقديم الدعم الحقيقي للقضية الفلسطينية الذي تحتاجه بشدة في هذا التوقيت مهما كانت الضغوط الخارجية، خاصةً في ظل محاولة بعض الأطراف إلقاء القضية في غياهب الجب، أو تقديم حلول سياسية لها تتسم بأنها منقوصة ومشوهة. وأنا على قناعة تامة لا تقبل الشك ولو للحظة واحدة بأن القادة العرب سيكونون على مستوى المسئولية أمام الله عز وجل، وأمام التاريخ، وأمام شعوبهم والأجيال المتعاقبة، ولن يفرطوا في أيٍّ من ثوابت الحل العادل للقضية الفلسطينية.
من هنا، يصبح المطلوب من قمة تونس في ظل الوضع الراهن أن تُعلن وتُركز بشكل واضح على المبادئ الأربعة التالية:
المبدأ الأول:
أن حل القضية الفلسطينية يُعد أهم محاور الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وأن مبدأ حل الدولتين يُعد الوسيلة الرئيسية لتسوية القضية الفلسطينية، وأن تكون هناك دولة فلسطينية تعيش في سلام وأمن واستقرار بجوار دولة إسرائيل.
المبدأ الثاني:
أن مبادرة السلام العربية لا تزال تمثل الرؤية العربية التي تحظى بإجماع عربي لحل القضية الفلسطينية بل والصراع العربي الإسرائيلي.
المبدأ الثالث:
ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود 67 عاصمتها القدس الشرقية، وأن أية تسوية سياسية مطروحة لا تحقق هذا الهدف المشروع والمقبول دوليًّا لن يُكتب لها النجاح على الإطلاق (مع مراعاة عدم التعرض مباشرة إلى تعبير صفقة القرن).
المبدأ الرابع:
أن استئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية على أسس ومرجعيات مقبولة يُعد الوسيلة الوحيدة لتحقيق أي تقدم مطلوب في عملية السلام، مع استعداد الدول العربية والجانب الفلسطيني للبدء في هذه المعركة السياسية في أقرب فرصة ممكنة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية