أن تقدم إسرائيل على عدوان القنيطرة الذي أسفر عن استشهاد جنرال في «الحرس الثوري» الإيراني، وقائد و5 كوادر في حزب الله، بينهم نجل أحد أكبر قيادات الحزب الشهيد عماد مغنية، ذلك يعني أن الجديد المهم الذي يحمله هذا العدوان لا يتمثل في ظروفه الآنية المتمثلة في اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية ودلالات خطاب أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، ولا في تداعياته الفورية الماثلة فيما إذا كان حزب الله، وهو القادر، سيرد، أو في أين ومتى وكيف سيرد، ولا فيما إذا كان العدوان سيجني عكس ما توخى على المدى القريب، فالادعاء بأن الهدف كان توجيه ضربة استباقية لإحباط هجوم وشيك محض كذب لم ينطلِ حتى على عدد من المحللين والخبراء الإسرائيليين، ارتباطاً بأن رد حزب الله، إن جاء قاسياً، سيدخل إسرائيل في جولة من الردود المتبادلة التي لا يضمن أحد بقاءها في إطار محسوب يمنع اشتعال كامل الجبهة على الحدود اللبنانية أو السورية أو كليهما معاً.


والسؤال: ما هو الجديد المهم الذي يكشفه هذا العدوان بصورة أكثر مما سبقه من اعتداءات إسرائيلية موضعية داخل سورية أو داخل لبنان؟
يشي العدوان لناحية مكان وقوعه في مثلث الحدود السورية اللبنانية الفلسطينية، وعلى بعد 5 كلم فقط من نقاط تمركز الجيش الإسرائيلي في الجولان المحتل، بأن أيَّ عدوان إسرائيلي قادم وشامل على لبنان قد يؤدي إلى إشعال هذه النقطة من الحدود بمقاومة شعبية تحسب لها إسرائيل ألف حساب، ارتباطاً بدرس عجز جيشها عن تحقيق نصر سريع وحاسم لا لبس فيه في العدوان على لبنان في العام 2006، وبدرس دحره دون قيد أو شرط عن جنوب لبنان في العام 2000. فوزن وهوية الذين استهدفهم العدوان على القنيطرة يشي بأن حزب الله بموافقة رسمية سورية ودعم كامل متعدد الأوجه من إيران، هو رأس حربة الإعداد لمقاومة شعبية على جبهة الجولان.


ولعل هذا يُظهر، فيما يُظهر، حقيقتين أساسيتين: الأولى هي أن إسرائيل ضالعة في مساندتها - بالمعنى الشامل للكلمة - للتنظيمات التكفيرية الإرهابية، إن كان داخل سورية أو لبنان، أو حتى غيرهما من الأقطار العربية.


أما الحقيقة الثانية فهي أن حزب الله انتقل، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، من كونه قوة مقاومة تدافع عن لبنان بجدية واقتدار للجم العدوان الإسرائيلي الثابت والمستمر، إلى كونه قوة مقاومة إستراتيجية بقدرات نوعية تؤهلها للإسهام جدياً في المواجهة الشاملة مع إسرائيل خارج لبنان، وفي المواجهة الدائرة مع التنظيمات التكفيرية الإرهابية، على ما بين المواجهتين من ترابط وتداخل، ارتباطاً بالحقائق الأساسية التالية:
1: التقاء مصالح إسرائيل، إستراتيجياً وتكتيكياً، مع التنظيمات التكفيرية الإرهابية التي تنفذ مخطط التدمير والتذبيح الشامل في بعض الأقطار العربية، وفي سورية ولبنان بالذات، أمر لا مراء فيه.


2: إطالة أمد عملية تدمير سورية، (دولة وجيشاً وإمكانات ونسيجاً وطنياً ومجتمعياً)، مصلحة إستراتيجية إسرائيلية لا لبس فيها.


3: تحويل منطقة سيطرة «جبهة النصرة» و»أخواتها» الإرهابية داخل مثلث الحدود إلى منطقة عازلة هدف إسرائيلي معلن ولا يحتاج إلى برهان.


4: محاولات إسرائيل – منذ اندلاع الأزمة السورية - تكريس قواعد جديدة تنسف – جوهرياً - توازن القواعد الحاكمة لجبهة الجولان منذ «اتفاق فك الاشتباك»، 1974، ولجبهة لبنان منذ «اتفاق وقف إطلاق النار»، 2006، أمر طبيعي حدَّ البداهة، ويعكسه قيام الجيش الإسرائيلي بتنفيذ نحو عشر اعتداءات داخل الأراضي السورية، وبعض الاعتداءات داخل الأراضي اللبنانية، أو على الحدود السورية اللبنانية.


يفسِّر ما تقدم دوافع قرار حزب الله المشاركة الفاعلة في القتال ضد التنظيمات التكفيرية الإرهابية داخل سورية، ويُظهر أنه كان بمثابة مبادرة وطنية إستراتيجية استباقية مفروضة، أي لم تحركه دوافع «طائفية» أو «مذهبية» كما يشيع خصوم الحزب وأعداؤه من العرب و»العجم» الدائرين في فلك الولايات المتحدة التي تدعم عمليات التدمير والتذبيح الشاملة والمخططة في سورية التي لا تلعب فيها التنظيمات التكفيرية بمسمياتها سوى دور الأداة.


لذلك فإن من الطبيعي والمنطقي أن يجري تشويه وتزوير أسباب ودوافع قرار حزب الله آنف الذكر، ارتباطاً بالموقف الأميركي الداعم للتنظيمات التكفيرية الإرهابية التي باتت تتصدر مشهد الصراع الدائر في سورية وعليها، ذلك رغم أن لا صلة لأهداف هذه التنظيمات بأهداف بدايات الحراك الشعبي السوري السلمي الإصلاحي، ما يعني أن الولايات المتحدة وحلفاءها، أولهم ربيبتها إسرائيل، تستخدم هذه التنظيمات في إطار سياسة هجومية هدفها الأساس استعادة مكانة «القطب الأميركي الواحد»، وإحكام سيطرته الشاملة على العالم، وحفاظه على «حصة الأسد» من عائدات الاقتصاد العالمي، وضمان تفوق إسرائيل على ما عداها من دول المنطقة وقواها، وتعزيز فرص محاولات إنهاء الصراع وفق شروط الرؤية الإسرائيلية، بل الصهيونية، التي تتبناها الولايات المتحدة، كما كشفت وأثبتت رعايتها لعشرين عاماً من المفاوضات لإحراز تسوية على أساس «الأرض مقابل السلام»، وهي، المفاوضات، التي لم تجلب سلاماً، ولا استعادت أرضاً، ولا جنت ضغطاً أميركياً على إسرائيل، ناهيك عن أنها لم تفض لا إلى وقف العدوان والاستيطان والتهويد، ولا إلى ضغط رسمي دولي يجبر الولايات المتحدة على الكف عن حماية شذوذ بقاء إسرائيل، بما هي آخر احتلال وأبشعه في العالم، دولة فوق القانون الدولي والقانون الإنساني، رغم ما مارسته منذ إنشائها، ولا تزال، من أشكال إرهاب الدولة المنظم.


تلك هي أهداف دعم الولايات المتحدة للتنظيمات التكفيرية الإرهابية، ودوافع تقاطع مصالحها ومصالح حلفائها، ومصالح ربيبتها إسرائيل بالذات، مع هذه التنظيمات حتى لو كان ثمن ذلك ما يجري من نشرٍ لـ «الفوضى الخلاقة»، ومن انتشار وتقوية و»عولمة» للإرهاب التكفيري، ومن تدمير للدول وتحطيم للجيوش وتذبيح للشعوب وتفكيك للنسيج الوطني والمجتمعي، ليس في سورية والعراق وليبيا، فحسب، إنما في لبنان واليمن ومصر وتونس ودول إقليمية «شرق أوسطية» وأفريقية، بل ودولة أوكرانيا الأوروبية، أيضاً.


ناهيك عن ثمن نقل الطابع التنافسي للصراع الكوني والإقليمي إبان حقبة «الحرب الباردة» بين دول المواطنة المتساوية في الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة ذات الأنظمة الفكرية والسياسية والاجتماعية المتنوعة إلى صراع «هوياتي» يشحنه خطاب «نهاية التاريخ» و»صدام الحضارات» المفتعل لإخفاء الطابع النهبي الاستقطابي العدواني للنظام الرأسمالي، وشكله «الليبرالي الجديد» المتوحش، خصوصاً، في حقبة تفرد «القطب الأميركي» في إدارة العالم، واحتكاره لحل قضاياه، وتحكمه بالنظام الدولي ومؤسساته.


على أية حال، ليس غريباً أن يصمت العالم عن عدوان إسرائيل على القنيطرة، فقد سبق للعالم أن صمت، بل وتواطأ بعضه، ودعم بعض آخر منه، اعتداءات إسرائيل التي لم تتوقف يوماً، بكل ما أسفرت عنه من مجازر بشعة وجرائم حرب وأشكال من الإبادة الجماعية، لا بحق الشعب الفلسطيني، فحسب، بل بحق عدد من الشعوب العربية، في مقدمتها شعب لبنان، أيضاً، خاصة في مرحلة سيطرة «القطب الأميركي الواحد» الذي أدى إلى اختلال العالم لدرجة أن يصبح «قتل شخص واحد جريمة لا تُغتفر»، وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر»، كما لخص أمر هذا الاختلال أحد شعراء سورية.


لكن في الحالات كافة، تقدم الأمر أو تأخر، فإن تداعيات عدوان إسرائيل على القنيطرة، لن تكون، (على ما أظن، وليس كل الظن إثماً)، لا في مصلحة إسرائيل، ولا في مصلحة حليفها الثابت الولايات المتحدة، ولا في مصلحة كل من يصمت على جرائم إسرائيل برعاية أميركية، وما علينا سوى أن ننتظر ونرى.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد