كان من الطبيعي أن إسرائيل بقضها وقضيضها، بيمينها ويسارها ووسطها سيركبها جنون الخوف من عقاب العدالة الدولية، حتى لو أن ما فعلته المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية، فاتو بنسودا، مجرد فحص أولي لإمكانية إجراء تحقيق يحتاج إلى الكثير من الوقت ودونه تعقيدات هائلة، بما يشتبه بأن جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل خلال عدوانها الأخير على قطاع غزة صيف العام الماضي.
قبل الخطوة الرمزية التي اتخذتها المدعية العامة، كان نتنياهو يتبجح بأن الذهاب إلى المحاكم الدولية سيف ذو حدين، وان الطرف الفلسطيني هو الخاسر الأكبر من وراء ذلك، لكنه اليوم يرتعش وأركان حكومته خوفاً، وغضباً.
معلوم سبقاً، أن التوجه إلى المحاكم الدولية طلباً للعدالة والنصفة لن يكون دون ثمن يدفعه الفلسطينيون، لكن الفارق واسع كبير وجوهري بين أن تقوم مؤسسات أميركية أو غير أميركية موالية لإسرائيل برفع دعوى على أفراد فلسطينيين، وبين أن يتم جر دولة إسرائيل من شعرها إلى قفص الاتهام بالإضافة إلى العديد من قياداتها السياسية والأمنية والعسكرية، المسؤولة عن ارتكاب جرائم حرب.
الملفات التي يمكن للفلسطينيين دفعها إلى المحاكم الدولية، تتصل بإرهاب دولة، فالدولة هي التي تقود سياسة الاستيطان، بما يخالف قوانين وقرارات الشرعية الدولية، والدولة هي التي قررت وصرفت الأموال في بناء جدار الفصل العنصري، الذي اعتبرته محكمة لاهاي غير شرعي وطالبت بإزالته.
والدولة الإسرائيلية هي التي تتخذ قرارات شن الحروب والعدوانات على الأراضي الفلسطينية، وجيشها الرسمي هو الذي يقوم بقصف المدنيين وتدمير مساكن الآمنين، واستخدام أسلحة محرمة ودولية، وهو المسؤول عن عديد المجازر التي أودت بحياة آلاف الفلسطينيين.
ودولة إسرائيل هي التي تشرف وتصرف على مخططات تهويد القدس وتفريغها من سكانها الأصليين، تحت ادعاء مكشوف ومفضوح بأن القدس التي تشملها قرارات الأمم المتحدة، ضمن الأراضي المحتلة، هي العاصمة الأبدية الموحدة لدولة الاحتلال.
ليس هذا سوى غيض من فيض الممارسات والسياسات الإجرامية التي ترتكبها دولة الاحتلال بحق الشعب الذي يُحتل أرضه، وليس آخرها السطو على أموال الضرائب التي هي حق خالص لا جدال فيه، للسلطة الفلسطينية.
هذه دولة متهمة بأن تمارس إرهاب الدولة، في كل ما يتعلق، بالصلة مع الشعب والأرض التي تحتلها ويعترف العالم، بأن عليها يفترض أن يمارس الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير، انطلاقاً من رؤية الدولتين التي طرحها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، وتبنتها وانقلبت عليها إدارة الرئيس باراك أوباما.
كان من الطبيعي إذن، ان يخرج نتنياهو عن وقاره الكاذب، وعن كياسة وضوابط المسؤولية، محاولاً ترويع العالم، من أن توجه الفلسطينيين إلى المحاكم الدولية من شأنه أن يشكل خطراً على هذه الدول.
وكان من الطبيعي أن يصاب وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان فيعلن ضرورة تفكيك السلطة الوطنية والتخلص من الرئيس محمود عباس ، وأن يغير على نحو فاضح مسار المفاوضات، نحو أن تستبدل إسرائيل فلسطين بالدول العربية، وربما أرادها، كل دولة على حدة، حتى يتسنى لإسرائيل تنفيذ مخططاتها الفعلية المعروفة بإسرائيل الكبرى.
وكان من الطبيعي، أيضاً، أن تؤدي الخطوة الرمزية التي اتخذتها المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية، إلى هيجان في أوساط الإدارة الأميركية التي قال بيان باسم خارجيتها إن السلطة الفلسطينية لا يحق لها الانضمام إلى معاهدة روما، وإن بلاده ستقف بكل قوة لحماية إسرائيل ومنع أي جهة من اتخاذ قرارات عقابية بحقها.
الإدارة الأميركية تتجاهل، أن دولة فلسطين أصبحت بقرار من أغلبية من دول العالم، قد أصبحت دولة عضواً غير كامل العضوية، وهي بذلك تعلن عن عدم اعترافها بقرار الأمم المتحدة المتعلق بمكانة دولة فلسطين.
تتجاهل الإدارة الأميركية الضعيفة والمنقادة للوبي الصهيوني، والتي تحملت الكثير من الإهانات الشخصية والعامة من قبل قيادات رسمية إسرائيلية، تتجاهل هذه الإدارة، إعلان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، الذي رحب بانضمام فلسطين إلى المعاهدات الدولية وبضمنها معاهدة روما.
تعلن الولايات المتحدة بفم ملآن، أنها العدو الرئيس للشعب الفلسطيني ولمنطق العدالة الدولية، وللقيم الإنسانية التي أقرتها الأمم المتحدة، وهي بذلك تنسف مصداقيتها، وخطابها الكاذب حول قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
ومع كل ملاحظاتنا وانتقاداتنا على الرئيس والسلطة، إزاء موضوع المصالحة الوطنية، وآليات اتخاذ القرار، ومواصلة الرهان على دور أميركي يؤدي إلى استئناف مفاوضات أغلقت إسرائيل كل السبل إلى طريقها، فإن ما يجري من ردود فعل على خلفية قرار المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية، يفترض من بقية الأطراف الفلسطينية أن تتفهم سلوك القيادة الفلسطينية وتكتيكاتها السياسية وأن تتبصر أبعاد وغايات المرونة الزائدة التي تبديها السياسة الفلسطينية.
ما وقع حتى الآن، وما زال في عداد البدايات، نحو توسيع وتصعيد الاشتباك مع الاحتلال، ومن يدعمه ويقدم له الحماية، يكفي لأن تقف الفصائل بجدية، أمام ضرورة تقديم كل ما يلزم من تنازلات وإجراء ما يلزم من تغييرات، لإنجاح مقصد وهدف المصالحة، الوطنية، للتمكن من تعظيم المجابهة، وتقوية العامل الفلسطيني، بما أن الثغرة الأساسية الكبيرة التي تعترض سبيل التوصل إلى إستراتيجية وطنية جامعة يلتف حولها الشعب الفلسطيني كله.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد