بقد تفيد العودة للوراء عشر خطوات وربما أكثر في محاولة لحل اللغز القائم، قد تبدو الصورة أكثر وضوحا حين تظهر كل أجزائها مجتمعة أو امتدادها التاريخي على بقعة الأرض هذه، فما حصل من انقسام بين القوتين الأكبر في الساحة الفلسطينية يبدو أنه يحتاج إلى كثير من القراءات أو بانتظار دراسات لم تكتمل بعد وهي تقرأ الراهن منفصلا عن الماضي.
يبدو للحظة أن القصة التي لم تكتمل فصولها بعد لهذا الصراع الداخلي أكبر من خلاف سياسي وأكبر من صراع على السلطة، إذ يبدو أن هناك خللا في الجينات الوراثية الثقافية للوعي الفلسطيني العاجز حتى اللحظة عن إيجاد أي قاسم مشترك بين تجمعين سياسيين فلسطينيين إذ لا حالة توحد أو اندماج واحدة بينما حالات الانفصال والطلاق كانت جزءا من التاريخ الفلسطيني المشبع بالخلافات الطويلة ويبدو أن الانقسام الحالي هو استمرار لهذا التاريخ.
لن نذهب بعيدا في تاريخنا الدموي العربي الذي كتب بالسيوف وبنيت قلاعه على جماجم البشر، بل أن قراءة الحالة الفلسطينية ببعدها السيسيولوجي قد تدلنا على واحدة من ألغاز الحالة السياسية المعاشة أو تساهم ربما في تقديم قراءة متصلة أو جزء من مقدمات الرواية التاريخية المشتتة، وعلى ما يبدو أن الخصوصية الثقافية والاجتماعية الفلسطينية أنتجت هذا السلوك السياسي غير القابل للتغيير.
قبل أن يتشتت المجتمع الفلسطيني في رحلة اللجوء كان المجتمع أقرب للمجتمع القروي منه للمجتمع المدني والبيئة الفلسطينية بيئة زراعية، فقد لعبت الزراعة الدور الأبرز في صياغة الهوية الثقافية الفلسطينية ليس على مدار العقود والقرون الأخيرة بل لأن الزراعة كان سبق اكتشافها في فلسطين واستمر هذا الارتباط الهائل بين المجتمع والزراعة منتجا تركيبته العشائرية كانعكاس طبيعي لواقعه واستمر ذلك إلى منتصف القرن التاسع عشر.
الأساس أن المدينة حالة مستجدة فلسطينيا فلم تتبلور المدينة هنا على الشريط الساحلي سوى في المائة عام الأخيرة التي سبقت النكبة ، أي لم تتبلور هويتها المدينية القادرة على إنتاج حالة سياسية متوارثة ومتماسكة فلا تكفي مئة عام لذلك، فأهم مدينتين هما يافا وحيفا، الأولى مع بداية القرن التاسع عشر لم تكن أكثر من قرية صغيرة حيث كان عدد سكانها 2500 نسمة وتضاعفت مع منتصف القرن فيما أن حيفا لم تكن أكثر من قرية صيادين سكنها حوالي ثلاثة آلاف.
صحيح أن المدينتين تطورتا في المائة عام بشكل سريع ومذهل وفاقتا مدنا متوسطة أخرى، ولكن هل كانت تكفي مائة عام من صياغة وعي وهوية سياسية مدينية؟ بالتأكيد لا، لأنه حتى في ظل هذا التطور الهائل فإن ثورة 36 كان الدور القيادي فيها للقرية وليس للمدينة، للداخل وليس الساحل المديني الذي ما أن بدأ الوقوف على قدميه حتى دمرته إسرائيل التي احتلت شريطه المديني المطل على البحر.
ماذا يعني ذلك الاستنتاج؟ يعني ذلك أن كل ما هو لدينا من بنى سياسية هي نتاج مجتمع قروي زراعي وأن النظر لتفاصيل العمل السياسي وطبقاته السياسية ومؤسساته هو أقرب للقرية منها للمدينة وأقرب للعلاقات والتركيب العشائري منها للبنى السياسية الحداثية.
فالسمات الطاغية على القوى السياسية والأحزاب الفلسطينية هي سمات قروية عشائرية لم تتجاوز في وعيها ما يتطلبه أصول العمل السياسي وفنونه ليس فقط لأن التاريخ الموروث وحده العامل الرئيسي هنا بل أيضا لأنها لم تتمكن ولم ترد اعتمادها على البنى التقليدية ولغياب مؤسسات البحث العلمي وعلماء الاجتماع الذين تعتمد عليهم إسرائيل في تفسير وتطور والتحكم بالظواهر الاجتماعية فيما أن أساتذة علم الاجتماع لم يقدموا لدينا دراسات ذات قيمة ربما باستثناء الباحث جميل هلال.
ماذا تعني سمات قروية؟ تعني أن كل قرية منفصلة بذاتها ولديها نظامها السياسي المستقل برئاسة المختار وكل قرية لها أزياؤها الخاصة بها «المرأة الفلسطينية تعرف من أي قرية من ثوبها» وسوقها الخاصة وقلما يحدث زيجات واختلاط خارج القرية، والقرية يغلب عليها الطابع العشائري وأن انتماء أفرادها للعشيرة يفوق أي شيء آخر ولم يحدث اندماج بين قريتين أو يتنازل أحد وجهاء أو مختار أخرى في سبيل هذا الاندماج.
وإذا ما دققنا في الأحزاب السياسية الفلسطينية ارتباطا بالسمات القائمة نجد أنها أقرب للتركيب العشائري فلا اندماج بين أي حزبين وأن الانتماء الحزبي للحزب كما العشيرة إذ يتقدم الحزب على أي شيء آخر، وأن راية الحزب تتقدم على راية الوطن «العلم» ويتم تمييز كل حزب من ألوانه الخاصة كما الثوب والزي.
القروي دائما بسيط وطيب وليس ماكرا في نمط تفكيره وهذه الأخيرة أحد متطلبات العمل السياسي وخصوصا حين يكون صاحب قضية مثل الفلسطينيين، فيما قيادة إسرائيل هي منتج المدن الأوروبية التي كانت قد شقت طريقها مبكرا نحو الحداثة، فالسياسة هي ابنة الحداثة، لهذا ليس مصادفة أن تتمكن إسرائيل من مناورة الفلسطينيين طويلا فيما هؤلاء لا زالوا لم يجدوا القاسم المشترك بينهم للمناورة أمامها بل تتسع الهوة إلى الحد الذي يحول دون القدرة على إعادة بناء نظام سياسي موحد.
فمن الطبيعي أن تكون النتائج بالمستوى الذي أمامنا، ماذا يعني ذلك؟ يعني أن على القوى والفصائل أن تدرك أن هناك خللا بنيويا شاب بنيتها وتركيبتها وأن عليها أن تتوقف أمام واقعها طويلا وأن تدرك أن الشكل القائم أضعف وأكثر سذاجة من الاستمرار بمشروع بحجم قضيتنا الوطنية، وأن عليها الاستفادة من تجارب الماضي وإعادة تشكيل وعيها وفقا لمتطلبات السياسة، ففيما تقبل العشيرة أن يحكمها مختار واحد فإن المدينة يحكمها مجلس المدينة بالمشاركة، وإلى أن تغادر القوى السياسية وعي العشيرة مستندة إلى مؤسسات الفكر كما الدول والأحزاب الحديثة يمكن القول إننا نبدأ السير على الطريق الصحيح .. حالنا يستدعي وقفة طويلة .. وعميقة ودراسات أطول بلا ادعاء وشعارات ساذجة، وطالما استمر هذا الخلاف بالشكل الذي نراه علينا أن نتأكد أكثر بأي مستوى من الوعي تتحلى هذه الفصائل ..!
Atallah.akram@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية