أتذكر انه خلال الحرب الأهلية، في لبنان جاء إلى بيروت صحافي فرنسي للوقوف على مسببات وتداخلات وتعقيدات تلك الحرب، ولفهم أو محاولة فهم دوافع التحالفات.
احتار الرجل من أين يبدأ، وتعثر منذ بداية الموضوع، لم يكن أمامه سوى أن يجتمع مع قادة الحركة الوطنية واحداً تلو الآخر، ثم مع قادة اليمين اللبناني واحداً تلو الآخر، ثم مع أمراء المليشيات المختلفة على جانبي معادلة الحرب، ثم مع السوريين، ثم انتقل إلى البلدان المؤثرة في هذه المعادلة بما في ذلك العربية والغربية والشرقية والإسلامية أيضا.
فماذا كانت النتيجة الاولية التي خرج بها؟
كانت النتيجة هي أنه أعاد النظر في نقطة البداية، وأصبح يفتش بعد هذه الجولات المضنية عن بدايات جديدة علها تسهل مهمته، وتعطيه إمكانية اكبر وأوسع للدخول في صلب الصراع وأطرافه المكونة، والمصالح المتضاربة لهذه الأطراف.
أعاد هذا الصحافي تقليب أوراقه والاستماع مرات ومرات إلى تسجيلاته دون فائدة تذكر.
لجأ ذلك الصحافي إلى أحد أصدقائي المقربين الذي كان يتقن اللغة الفرنسية وعمل لسنوات طويلة في إذاعة مونتي كارلو لكي يساعده على فكفكة الغاز تلك الحرب.
فماذا كانت النتيجة؟ وماذا كان استنتاجه الأهم بعد جلسات وجلسات بينه وبين صديقي المقرب؟
أذا أردت أن تفهم هذه الحرب فعليك أن تقلع عن أن يكون هدفك هو الفهم، أما إذا أردت أن تعرض هذه الحرب فيمكن ذلك بشرط أن لا تفهم.
هذا هو حالي مع معادلة الانتخابات والفصائل والحكومة الجديدة.
إليكم بعض تعقيدات الفهم.
حركة حماس ليس لديها مشكلة في الانتخابات من حيث المبدأ ولكنها لن تشارك فيها، يقصدون الانتخابات المزمع إجراؤها!!
حركة فتح مع الانتخابات ولكنها لن تقدم عليها إذا حاولت إسرائيل منع إجرائها في القدس ، وليس إذا حاولت حركة حماس منع هذه الانتخابات في قطاع غزة أيضا.
«الشعبية» و«الديمقراطية» وحزب الشعب مع الانتخابات بشدة وكذلك «فدا» ولكن «الشعبية» و«الديمقراطية» لن تشاركا أبداً، في حكومة يفترض أن مهمتها الرئيسة هي التحضير للانتخابات، كما ان كلاً من «فدا» وحزب الشعب حتى ساعة كتابة هذه السطور لم يقررا بعد المشاركة في الحكومة من عدمها!!؟ وهي نفس الحكومة التي يفترض أنها تحضر للانتخابات.
حركة حماس تلهث وراء الفصائل من أجل «ادارة وطنية» تشارك بها الفصائل لإدارة قطاع غزة دون أن تجد حتى الآن ولا حليفاً واحداً مستعداً لذلك.
وحركة فتح لم تجد حتى الآن سوى فصيلين أو ثلاثة فصائل من داخل المنظمة للمشاركة في الحكومة دون أن يشكل وزن هذا الفصائل (مع الاحترام) فارقا حقيقيا في معادلة تشكيل الحكومة.
فصائل اليسار أو التجمع الجديد لا يمتلك أية رؤية موحدة حول إنهاء الانقسام سوى التمنيات والشعارات العامة، وليس لديهم موقف واحد يمكن اعتباره موحدا ومتماسكا من القضايا الملموسة لمعادلة الانقسام.
خذوا المثال التالي: طالما أن هذه الفصائل مع الانتخابات وبشدة منقطعة النظير ماذا سيكون موقفهم إذا منعت حركة حماس إجراء الانتخابات في قطاع غزة؟
هل هم على استعداد حقيقي مدفوع الثمن للوقوف في وجه حركة حماس!؟
اقصد حتى لو أن هذه القوى لا ترغب، وتتمنع عن المشاركة في الحكومة التي تنوي حركة فتح تشكيلها فهل لديها تصور لإعادة النظر في موقفها من هذه المشاركة إذا ما تأكدت أن حركة حماس ستمنع اجراء الانتخابات في القطاع، أم أن الأمر لا يعنيها من هذه الزاوية، ولن يثنيها موقف حركة حماس عن استنكافها عن المشاركة في الحكومة!؟
لو أن كل هذه القوى رمت بكل ثقلها من اجل الانتخابات التي تعتبرها مفصلية في إعادة الشرعية للمؤسسات الفلسطينية، وتعتبرها احد اهم مداخل انهاء الانقسام، فهل سيؤدي ذلك إلى تعنت حركة حماس أم إلى الضغط الشديد عليها (على حركة حماس)؟ لإعادة النظر في مسألة المصالحة وانهاء الانقسام، وربما التوافق على إجراء الانتخابات في الضفة وغزة والقدس أولاً، ثم التوافق على استكمال انتخابات المجلس الوطني لاحقاً؟
حركة حماس ترى أن الانتخابات المنوي إجراؤها هي محاولة «لتكريس الانقسام»!! في حين تنادي كل الفصائل بالانتخابات كضرورة وطنية للحفاظ على شرعية المؤسسة الفلسطينية، وعلى اعادة الامر برمته للشعب ولصندوق الاقتراع في حين ان نفس هذه الفصائل ترى في تشكيل هذه الحكومة محاولة لتكريس الانقسام (او بعضها على الأقل) فكيف تستقيم الأمور هنا؟
لاحظوا إذا تكرمتم:
الانتخابات مهمة وضرورة وطنية ويمكن ان تجدد الشرعية، يمكن أن تكون مدخلاً مناسباً لإنهاء الانقسام.
أما الحكومة التي ستكون مهمتها الرئيسة هي إجراء هذه الانتخابات فهي ربما تكرس الانقسام..!!؟
الحقيقة هي أن حركة حماس لا تريد الانتخابات وستمنع قيامها وإجراءها في القطاع والفصائل ليس لديها موقف من هذه المسألة المهمة والخطيرة.
والحقيقة ان الفصائل تضحي بدورها عبثاً، وتقلل من وزنها دون مقابل، ولا تبحث في الواقع عن زيادة هذا الوزن وإنما تبحث عن معادلات بقائها عند خطوط التماس وعلى تخوم المواقع والتوازنات والمصالح.
حركة فتح بدورها لم تدرك بما يكفي كيف أن مشاركة كل فصائل المنظمة في الانتخابات تتطلب التفاهم المسبق معها حول كيفية وضع خارطة طريق مقنعة بالمشاركة الفاعلة في الحكومة والانتخابات، ولم تتم حوارات جادة وحقيقية، وتم استباق الأمور بالحديث المتسرع حول هذه المسألة الحيوية.
لا يمكن قيادة العمل الوطني بشعار «من شاء فليشارك ومن استنكف فإلى حيث ألقت..».
ليس مطلوبا الارتهان المسبق لموافقة هذا الفصيل أو ذاك، ولكن المطلوب بالمقابل أن ترى الفصائل خارطة طريق حقيقية لإصلاح المنظمة وإجراء انتخابات لكل المؤسسات ولاستراتيجية ملموسة للشراكة الوطنية.
لا يمكن أن تشارك الفصائل في ظل ما نعرفه من ارتهانات وارتباطات وتحالفات بكل بساطة وأن تنتقل بدورها من دائرة البحث عن البقاء إلى دائرة الفعل والتأثير والمشاركة دون أن تساعد حركة فتح هذه العملية بكل حكمة وروية وتخطيط.
الأمر لا يحتمل العفوية والارتجال والمواقف العنترية!!
الأمر منوط كذلك ومتروك إلى دقة تقدير الرئيس أبو مازن لخطورة الأمر وأبعاده الحالية والمستقبلية على القضية والشعب والوطن والمنظمة.
إجراء الانتخابات بأي ثمن إجراء خاطئ لان الثمن مهما كان نسبيا هو باهظ.
وإجراء الانتخابات مع ذلك مسألة حيوية وضرورة وطنية والمسألة في الكيفية التي يمكن من خلالها أن تحول هذه الانتخابات إلى قوة دفع سياسية هائلة لمواجهة الأخطار.
والكيفية هي أوسع شراكة وطنية، على قاعدة ملموسة من أسس واضحة وملزمة لهذه الشراكة، وكل هذا ممكن توفيره إذا توفرت الإرادة المسؤولة، و«فتح» مطالبة أولا وأخيرا بتوفير هذه الإرادة ولديها الإمكانية لذلك.
«فتح» مطالبة بأن تعيد إثبات جدارتها لقيادة العمل الوطني وفي استطاعتها أن تعيده.
وإذا لم تتمكن «فتح» من هذا كله فلن يتمكن في المدى المنظور أحد من التصدي الحقيقي للأخطار الهائلة القادمة ولذلك بالذات فإن المسؤولية جبارة وخطيرة ومضاعفة، عما كانت عليه في أي وقت.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية