غني عن القول إن قضية قتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي تعبر عن كارثة إنسانية وسياسية لحقت بالمملكة العربية السعودية، وهي أولاً بمثابة خطأ قاتل ارتكبته أجهزة سعودية وتسببت بفضيحة كبرى يصعب لملمة أطرافها وتبعاتها السياسية وربما الاقتصادية. ومن باب المتابعة لتفاصيل ما جرى وبصرف النظر عن الحيثيات الدقيقة لكل الأحداث ما كان ينبغي تحت أي ظرف أن يتم قتل الخاشقجي وبالذات في مبنى القنصلية. وهذا خلل أمني فادح ينم عن استهتار وخفة يد وقصر نظر. وحتى لو لم يكن القصد هو قتل هذا الشخص فما حصل هو من باب الأخطاء المدمرة. لكن الموضوع على ما يبدو هو أبعد من اهتمام إقليمي ودولي بحياة إنسان، ففي كل يوم تزهق أرواح العشرات من البشر بمن فيهم إعلاميون ولا أحد يكترث، وقبل أيام قتل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أكثر من 60 شخصاً في غارة على شرق سورية وبرغم احتجاج الحكومة السورية لم يحدث شيء، وكل يوم يقتل مواطنون يمنيون ولا تحدث ضجة جدية بهذا المستوى في العالم ويتم تناول الموضوع بصورة خجولة في بعض الأحيان وغالباً لا اهتمام بحياة البشر. فالموضوع هنا هو سياسي بامتياز، ويخضع لتصفية حسابات من جهة وابتزاز من الجهة الأخرى.


الذين أثاروا موضوع الخاشقجي بكل قوة وجندوا لذلك وسائل إعلام جبارة وممولة بصورة جيدة هم تركيا ودولة قطر وإيران بالدرجة الأولى والولايات المتحدة الأميركية لاحقاً بالرغم من موقف الأخيرة المتذبذب. فقطر وإيران لهما مشاكل مع السعودية وتمثلان خصماً لها وخاصة دولة قطر التي لديها خلافات مع دول الخليج ومفروض عليها مقاطعة منها، وإيران في صراع غير مباشر مع السعودية في اليمن والعراق وسورية ولبنان ولهذا فهي تريد الإساءة ما أمكن للسعودية، أما تركيا فهي في تحالف مع قطر وفي خلاف كذلك مع السعودية حتى لو ادعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده تريد الحفاظ على علاقاتها مع السعودية. ولعل التركيز من كل هذه الدول في حملة إعلامية موجهة ومخططة هو الذي أثار القضية على المستوى الدولي وحولها إلى قضية دولية يمكن القول إنها أضحت قضية رأي عام. والإعلام هنا صاحب قوة جبارة في التلميع والترويج لشخص أو موقف أو فكرة ما أو الشيطنة. وفي حال السعودية كان الهدف دون شك هو الشيطنة والإساءة. 


وهذه الحملة ربما تنبع من الرغبة في الانتقام وتصفية الحسابات. ولكن في حالة الولايات المتحدة يظهر أن المسيطر على الموقف الأميركي هو محاولة الاستفادة المالية من القضية وهذا ما عبر عنه بوضوح الرئيس دونالد ترامب الذي ذكر الأميركيين بالصفقات التي قد تخسرها أميركا والبالغة قيمتها 400 مليار دولار منها ما يزيد على المائة مليار صفقات سلاح قد تذهب السعودية إلى مزودين آخرين كروسيا والصين إذا ما توترت العلاقة مع واشنطن على خلفية اتخاذ الأخيرة موقفاً مناهضاً للمملكة. وعلى الأغلب سيساوم ترامب القيادة السعودية في الموقف الذي سيتخذه لاحقاً. أما تركيا فلا يبدو أنها ستذهب حتى النهاية على الأقل هذا ما فهم من تصريحات أردوغان يوم أمس، والتي لا تدين بشكل واضح العائلة المالكة في السعودية وتطرح أسئلة أكثر من تحديد حقائق دامغة ومن شأنها الإدانة. والجدير ذكره في هذا الشأن هو اتخاذ روسيا لموقف محايد في هذا الموضوع ربما رغبة في الاستفادة لاحقاً من التطورات المترتبة على الإثارة والحملات الموجهة التي روسيا ليس طرفاً فيها بل هي نفسها تعاني من حملات إعلامية أميركية وغربية ضدها كما حصل في قضية محاولة اغتيال الجاسوس الروسي سيرغي سيكريبال وابنته يوليا.


وإذا كان الإعلام العنصر الأكثر تأثيراً على الرأي العام في قضية خاشقجي خصوصاً في هذه الفترة لاسيما مع وجود شبكات التواصل الاجتماعي وارتباط غالبية البشر بها، فهذا صحيح ليس هنا بل في مواقع أخرى. ولعلنا كفلسطينيين استفدنا كثيراً من الإعلام في التأثير على الرأي العام الدولي في محطات مهمة من نضالنا، فصور الانتفاضة الأولى والقمع الإسرائيلي الدموي للمتظاهرين كانت حاضرة في كل مكان في العالم، ولو كان الناس يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لكانت النتيجة أفضل بكثير. ولنأخذ مثلاً قصة الصبية عهد التميمي التي اشتهرت بفضل فيديو قصير نشر على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي ويظهرها وهي تصفع جندياً إسرائيلياً. ولعل رد الفعل الإسرائيلي الأحمق على هذا الفيديو ساهم أكثر في الترويج لقصة عهد وشهرتها على نطاق واسع كممثلة للنضال الشعبي السلمي في فلسطين ولجيل فلسطيني واع وقوي الشكيمة، فاعتقالها ساعدها وأضر بإسرائيل.


ولنا في تجارب التاريخ نماذج كثيرة تظهر أهمية وقوة وسطوة الإعلام في تقرير مصير شخصيات في ظهورها أو سقوطها، ولو استحضرنا قضية ووتر غيت التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون في سنوات السبعينيات عندما اضطر للاستقالة بسبب ضلوعه في التنصت على خصومه في الحزب الديمقراطي المنافس قبيل انتخابات العام 1972، فالسبب في كشف القضية والترويج لها والتأثير على الكونغرس هو صحافيان في صحيفة «واشنطن بوست» كشفا تفاصيل وملابسات عملية التنصت. كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين الذي اغتيل على يد يهودي إسرائيلي متطرف، تعرض لفضيحة أيضاً بسبب قيام صحافي يدعى دان مرغليت بالكشف أن رابين وزوجته يملكان حساباً في الولايات المتحدة بصورة مخالفة للقانون، ما اضطره للاستقالة في العام 1977 وبسبب هذه الفضيحة فقد حزب «العمل» الحكم للمرة الأولى في إسرائيل.


قوة الإعلام تظهر قوة سطوة المال أكثر من أي شيء آخر، فالفقراء لا يملكون وسائل إعلام مؤثرة ولا يستطيعون التغيير كما يفعل أصحاب رؤوس الأموال والدول الغنية التي تتحكم في الإعلام وتوجهه لصالحها، لكن لكل قاعدة شواذ فأحياناً ينتصر الدم والتضحيات على القوة ورأسمال وتظهر الحقيقة ساطعة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد