للحظة تبدو الأمور كأنها عالقة بين إسرائيل من جهة وحركة " حماس " ومعها الفصائل الأخرى من الجهة المقابلة، فقد كان متوقعاً أن تكون مسيرات العودة التي تتجدد كل يوم جمعة على السياج الشرقي لقطاع غزة أكثر سلمية لأكثر من سبب، أولها أن حكومة إسرائيل كانت قد تعرضت لحرج كبير من الصاروخ الذي وصل الأسبوع الماضي إلى مدينة بئر السبع وأصاب منزلاً إصابة مباشرة، وكان يبدو أن اجتماع الكابينيت الذي عقد حينها، والذي قطع رئيس الأركان غادي آيزنكوت زيارته للولايات المتحدة، تاركاً اجتماعاً مع رؤساء أركان عدة دول مهمة، ليلتحق باجتماع الكابينيت على عجل، وكأن الأمور على وشك اتخاذ قرار الحرب الثانية، وعمّمت حركة "حماس" على عناصرها بالهدوء والابتعاد.


والصاروخ واستعراض الجمعة قبل الماضية كان يكفي لحركة "حماس" للشعور بالقوة من ناحية وبالقلق من ناحية أخرى، القوة حيث القدرة على الاستعراض بالهدف وتدمير المنزل بشكل مباشر بغض النظر عن الجهة التي أطلقت الصاروخ، ولكن إسرائيل قالت: إنه لم يبتعد كثيراً عن حركة "حماس" أو "الجهاد"؛ لأنهما الوحيدتان اللتان تملكان هذا النوع من الصواريخ، أما القلق فقد كان اجتماع الكابينيت بما صحبه من تهويل كأنه انعقد لاتخاذ القرار فقط وقد سبب ذلك قلقاً لدى الحركة التي أخلت مواقعها واختفت قيادتها بشكل كلي، وهي تدرك أن الحرب على غزة ليست نزهة وتدرك تبعياتها وتعرف أيضاً أن هذه الحكومة اليمينية قد أجرت بروفة البداية في مؤسسة المسحال وهو مبنى من ستة طوابق بالإضافة للمناخات الدولية جميعها في صالح إسرائيل؛ لأن تلك المناخات تحددها إلى حد ما إدارة الرئيس ترامب التي يعتبر جزء كبير منها إذا لم يكن جميعهم أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها.


لم تتوقف المسيرات تماماً ارتباطاً بما كان متوقعاً وإن أشادت إسرائيل بالهدوء قياساً بالماضي، وبات واضحاً أن الأمور تبحث عن نهايات لكن لا "حماس" قادرة على وقف المسيرات حيث أصبحت برنامجها الميداني والتفاوضي الوحيد، ولا إسرائيل قادرة على شن عدوان على غزة، وتستمر الحالة بالمراوحة بين الجانبين، إذ بات من الواضح أن الوسطاء حتى لم يتمكنوا من كسر تلك المراوحة تماماً، وبات طرفاها أسرى معادلة يحتاجان أن يهبطا منها عن الشجرة.


أما لماذا إسرائيل غير قادرة أو لا ترغب بالحرب؟ فهذا سؤال كبير، فإسرائيل سابقاً لم تكن تقبل بهذا الشكل من العلاقة مع خصومها وكثير من الإسرائيليين مثل أيهود باراك وغيره يحمّلون هذه الحكومة المسؤولية عن تآكل قوة الردع وعجز الحكومة وترددها في السماح بهذا الوضع، بل ذهب باراك للتفاخر بأنه قتل أكثر من ثلاثمائة من عناصر "حماس" في دقائق معدودة، بينما تقف هذه الحكومة بلا قدرة على الفعل على حساب الدولة ومناعتها الأمنية.


لكن المسألة في إسرائيل أكثر تعقيداً من اتخاذ القرار الذي يقف وحده أفيغدور ليبرمان كوزير للدفاع مطالباً بالحرب، فيما يقول وزراء في الكابينيت: إنه لم يقدم خطة وليس جدياً، بل مجرد استعراض انتخابي ليظهر أنه الأكثر حرصاً على المصلحة الأمنية. لكن هناك حسابات أخرى أبعد من ردود الفعل اللحظية وهي حسابات سياسية من ناحية أو حسابات انتخابية من الناحية الأخرى، فالحسابات السياسية هي أن مشروع فصل غزة وضع على السكة، وقد بدأ يتحرك بشدة وشرط استمرار الحركة هو استمرار الشكل القائم في النظام السياسي الفلسطيني وبمعنى أدق بقاء حركة "حماس" في الحكم بغزة، لذا فإن الحرب قد تتدحرج أبعد من ذلك لتجد إسرائيل نفسها وسط الحرب مضطرة للذهاب تحت ضغط الرأي العام نحو تغيير البيئة السياسية الفلسطينية وهذا غير وارد حالياً.


المسألة الثانية تتعلق بكيفية اتخاذ قرار الحرب في إسرائيل. صحيح أن الحكومة الإسرائيلية هي صاحبة القرار الأول والأخير لكنها لا تتخذ حرباً خارج تقديرات المستوى العسكري لذا جرى استدعاء رئيس الأركان على عجل من الولايات المتحدة وبعدها هدأت الأصوات. فالحكومة الإسرائيلية تخشى أن تذهب باتجاه مخالف لتقدير رئيس الأركان لأن في حالة أي إخفاق في الحرب أو تشكيل لجنة تحقيق سيقول رئيس الأركان حينها إنه أوصى ونصح بعدم الذهاب، لكن الحكومة ذهبت على مسؤوليتها وهذا ربما إذا ما حدث ذلك في حرب ليست ناجحة وكان عدد الخسائر كبيراً فإنه كفيل بإنهاء المستقبل السياسي لرئيس الحكومة وباقي أعضاء الكابينيت.


لذا صحيح أن الجيش لا يتخذ القرار بشكل مباشر لكنه صاحب الكلمة وفقاً للتقليد القائم في عمل المؤسسات في إسرائيل. وقد وضع الجيش قبل أربعة أشهر توصيته عندما تم قنص جندي إسرائيلي على حدود غزة بأن الجيش الإسرائيلي لا ينصح بالحرب هذا العام بل يحتاج إلى سنة أخرى ينهي فيها خطر الأنفاق ويمكن بعدها الدخول في حرب بخسائر صفرية وهو جاهز للحرب لكن الخسائر ستكون واردة، وألقى بتبعية قرار الحرب في ظل التقدير على مسؤولية رئيس الحكومة ووزير الدفاع اللذين خشيا من مغامرة تنتهي بلجنة تحقيق تطيح بمستقبلهما السياسي فيما كانت الخسائر الحالية.


الأمر تكرر هذه المرة حيث جرى التهديد بالقوة بديلاً عن استعمالها وهذا أفضل ما تفعله إسرائيل، لأن اقتراح الضربات الجوية أيضاً من الممكن أن يتسبب بحرب فيما لو ردت حركة "حماس" والجهاد بالصواريخ سترفع إسرائيل مستوى النار وتتدحرج الأمور أكثر وهذا ما لا تريده تل أبيب حفاظاً على الوضع القائم في البيئة السياسية وهو ما جعلها تبحث عن الوسطاء وتفاجئ الجميع دون شن غارات وهو ما لم يكن متوقعاً لأن الخيارات قد تخرج عن الحسابات الهادئة هناك لأن القرار تضعه مراكز الدراسات التابعة للأمن القومي وليس" هواة السياسة المتشاكسين" وأصحاب المصالح كما وصفهم ذات مرة بن غوريون.


مستوى المسيرات انخفض وهذه بداية النزول عن الشجرة، وإسرائيل بالمقابل تلقفت ذلك كأنها تنتظر من ينزلها أيضاً عن الشجرة. ويبدو أن الأمور بدأت في الهدوء الذي رافقه إشارات مهمة من حركة "حماس" لم تتوقف عند رفض الصاروخ بل وأيضاً تعميمات داخلية ودعوة خطباء مساجد لسلمية المسيرات. فهل ما حدث من تصعيد وأجواء حرب أصبحت خلفنا؟ وهل نعود للمسار الماضي؟ نعم لأن قطر ستستأنف المشروع الذي سبب قلقاً لدى السلطة والذي يعني الفصل..!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد