بدون أدنى شك تشعر الحكومة الإسرائيلية بالغبطة والسعادة في أعقاب زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لإسرائيل، فبعد الأخبار التي قالت إن ميركل تهدد بإلغاء الزيارة إذا قامت إسرائيل بهدم التجمع البدوي في الخان الأحمر، جاء الدعم الألماني غير المتوقع والمفاجئ لموقف الحكومة الإسرائيلية من غالبية القضايا التي تم بحثها خلال اللقاء، وبصورة مخالفة للمواقف الأوروبية التي ألمانيا جزء منها. وكأن ألمانيا أرادت التكفير عن خطايا النازية ولكن على حساب الشعب الفلسطيني، لأننا الطرف الأضعف ولأن العالم يقوم على معادلات لا تحترم الضعفاء ولا تنصفهم.
لقد نفت المستشارة الألمانية ميركل الأنباء التي تحدثت عن إلغاء زيارتها في حال تم هدم قرية الخان الأحمر وقالت «هذا ببساطة غير صحيح»، وزادت الطين بلة باعتبار أن القرار بهدم القرية البدوية هو « قرار إسرائيلي داخلي» ولا علاقة له باجتماعاتها مع الحكومة الإسرائيلية. وهذا الموقف الغريب يتناقض مع موقف الاتحاد الأوروبي من عمليات الهدم التي تقوم بها إسرائيل في مناطق (ج)، بل ويتناقض مع القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن وآخرها القرار 2334، الذي يفرق بين الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وبين إسرائيل خارج هذه الأراضي. وللتذكير فقط، قرر الاتحاد الأوروبي في اجتماع ممثلياته في القدس و رام الله في شهر كانون الثاني من العام 2012، دعم صمود الفلسطينيين في مناطق (ج) بناء على توصيات تقرير رسمي حذر من أن عدم كبح أو تغيير السياسة الإسرائيلية في مناطق (ج) سوف يبدد الأمل بحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية ضمن حدود 1967. بل إن الاتحاد الأوروبي اقام «كونسورتيوم» لحماية الضفة الغربية يضم كلاً من بلجيكا وفرنسا والسويد ولوكسمبورغ وإيطاليا وإيرلندا والدانمرك وأخيراً انضمت بريطانيا لهذا الاتحاد، الذي أخذ على عاتقه من بين اشياء عديدة حماية المشاريع الأوروبية في مناطق (ج).
ولم تتوقف ميركل عن هذا الموقف الفضيحة بل ذهبت إلى إطلاق تصريح غريب وأيضاً يتناقض مع القيم الأوروبية وهو الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل ومطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بها على خلفية قانون القومية العنصري الذي سنته إسرائيل مؤخراً. وكأنه لا يكفي ميركل ما تقدمه من دعم اقتصادي وأمني لإسرائيل بما في ذلك الغواصات المتطورة جداً التي زودت بها الجيش الإسرائيلي على الرغم من استمرار السياسة الاحتلالية الإسرائيلية، وتريد تعويض إسرائيل على حسابنا، وتشجعهم على خرق القانون الدولي بل وانتهاك قرارات الاتحاد الأوروبي التي ألمانيا جزء منه ودولة محورية في تقرير سياساته.
مع فوز ميركل بولاية جديدة في الانتخابات التي جرت في ألمانيا كانت التوقعات في أوروبا أن تقوم المانيا بالتعاون مع فرنسا بالدرجة الأساسية بصياغة مبادرة سياسية أوروبية لملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة الأميركية بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً لأميركا وبعد سياسته التي قضت على الدور الأميركي كوسيط وحيد وراعٍ للعملية السياسية. وكان من المتوقع أيضاً أن تعمل هاتان الدولتان مع دول أخرى على بلورة سياسة أوروبية أكثر حزماً تجاه إسرائيل انطلاقاً من المصالح الأوروبية القوية في الشرق الأوسط. ولكن هذا لم يحدث وما تفعله ميركل اليوم هو النقيض التام للمأمول من ألمانيا، وأغلب الظن أن هذه السياسة الألمانية تجاه إسرائيل لا تحظى بشعبية داخل ألمانيا. فالرأي العام الألماني تغير كثيراً في السنوات الأخيرة تجاه إسرائيل وتوسعت نشاطات حملات المقاطعة «بي. دي. إس»، وتقول استطلاعات الرأي وسط الشباب الألماني أنه لم يعد بوسعه تحمل دفع ثمن جرائم النازية في النصف الأول من القرن الماضي، وأن ألمانيا كفرت عن تلك الجرائم ودفعت الثمن بما يكفي لكي لا تتحمل الأجيال الشابة الآن هذا العبء.
على كل الأحوال غازلت ميركل الحكومة الإسرائيلية بما يكفي لدرجة أنها تجاهلت تصريحات وزيرة الثقافة اليمينية العنصرية ميري ريغف التي استقبلت ميركل بهجوم علني عنيف وطالبتها بأن تهتم بشؤونها الداخلية على خلفية الأنباء عن تهديدها بإلغاء الزيارة، وجلست معها ومع الوزراء الإسرائيليين في إطار اللقاء التنسيقي السنوي للحكومتين. واندفعت لتؤيد موقف إسرائيل من الوجود الإيراني في سورية حتى أنها تحدثت عن منعها من الاقتراب من حدود إسرائيل في الجولان متناسية أن الجولان هو أراضٍ سورية محتلة، وأيضاً حول النفوذ الإيراني في لبنان، وأكدت على مطالب إسرائيل من أهمية منع إيران من امتلاك سلاح نووي وإن اختلفت مع نتنياهو حول الوسيلة لذلك.
زيارة ميركل هي دليل آخر على المشكلة التي يواجهها الفلسطينيون مع المجتمع الدولي الذي لا يزال أسير المواقف والتصريحات بينما في الواقع تفعل إسرائيل ما يحلو لها وتلقى الدعم من كل الأطراف، ويتم التراجع في كثير من الأحيان حتى عن المواقف اللفظية المساندة لحقوق الشعب الفلسطيني. وهي بمثابة رسالة للشعب الفلسطيني بأنه يجب ألا يعتمد فقط على الدعم السياسي الدولي الذي لم يعد قادراً على التأثير في سياسة الاحتلال وحلفائه، وأن عليه بناء قوته الداخلية التي تبدأ أساساً بالوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام وتعزيز صمود الشعب في أرض وطنه وبناء مؤسسات دولته وكيانه الوطني ومراكمة عناصر القوة في مواجهة الاحتلال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية