لم تغير واقعة انضمام النظام السوري إلى دول الخليج وبعض الدول العربية الأخرى العام 1991 فيما سمي تحالف حفر الباطن أو القوات العسكرية العربية التي كانت جزءا من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة المناهض للعراق والذي تشكل لإخراج العراق من الكويت بعد احتلالها العام 1990، من حقيقة كون الدول العربية التقليدية التي كانت حليفة للغرب أيام الحرب الباردة، لا تثق بأنظمة التحرر العربي التي كانت تعد جزءا من المعسكر الشرقي في تلك الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، لكنها أثبتت أنه لا ثوابت في السياسة، فقد كان الصراع العقائدي بين "نظامي البعث" في العراق وسورية وراء ذلك الموقف الذي اتخذه النظام السوري في ذلك العام. 


وفي الحقيقة يبدو أن الحروب التي تعد في علم السياسة ذروة المواقف السياسية، واحتكاما للقوة لحسم الصراعات بين الدول، تظهر كلما نشأت خاصة إذا تحولت إلى حرب إقليمية أو دولية، حقيقة اصطفافات الدول، لدرجة أن وجد نظامان نقيضان أحدهما للآخر، نقصد النظامين الاشتراكي والرأسمالي، نفسيهما في خندق واحد في مواجهة المعسكر النازي في الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت بانتصارهما، ومن ثم إلى ظهور التنافس بينهما على السيطرة على العالم فيما سمي الحرب الباردة. 


وكان الحد الفاصل قد ظهر في جدار برلين الذي قام بتقسيم عاصمة ألمانيا المهزومة في الحرب الثانية إلى شرقية يسيطر عليها النظام الشيوعي وغربية، يسيطر عليها المعسكر الرأسمالي، وهكذا انقسم العالم بأسره بين شرق وغرب، وفي كل مكان من العالم، إلى أن انتهت الحرب الباردة بانهيار ذلك الجدار، فظهرت الولايات المتحدة كدولة وحيدة تقود النظام العالمي الجديد.


لكن عقدين من الزمان كانا كافيين، لبدء تزعزع تلك الزعامة العالمية للولايات المتحدة، حين ظهرت قوى صغيرة في غير مكان تشن حروب عصابات في أكثر من مكان ضد النفوذ الأميركي، وقد ظهرت سطوة أميركا واضحة حين قامت بفرض التغيير في أوروبا الشرقية، فخاضت حربا ضد محاولة الصرب الحفاظ على الاتحاد اليوغوسلافي، ثم خاضت الحرب ضد القاعدة في أفغانستان ومن ثم في العراق ضد صدام حسين.


عقد وحيد بعد انتهاء الحرب الباردة، أظهر الولايات المتحدة كقوة وحيدة تفرض ما تشاء أين تشاء دون أن تظهر قوة دولية أخرى ليس كند، ولكن على أقل تقدير كقوة خارجة عن الطوع، إلى أن بدأت روسيا في إعادة التوازن السياسي لها كدولة مستقلة عن الإرادة الأميركية، وأكثر من دولة كقوة اقتصادية، لا تخضع تماما لكل تفاصيل السياسة الأميركية الخارجية.


بعد عقدين حاولت واشنطن أن تحدث تغييرا مشابها لما فعلته بأوروبا الشرقية في الشرق الأوسط، بما أطلقت عليه وصف "الربيع العربي"، حيث اعتمدت على بعض الشركاء الأوروبيين بشن الحرب على نظام معمر القذافي في ليبيا من خلال حلف الناتو، أما في سورية فاعتمدت على الحلفاء العرب الذين قاموا بتشكيل قوات مناوئة للنظام من خلال تشجيع الانشقاقات العسكرية في الجيش السوري وتشكيل الميلشيات الشعبية، لكن اعتماد كل هذه القوات على عقيدة التطرف التي تتوافق مع طبيعة النظام الغربي وحليفه التاريخي العربي، من حيث كونه نظاما تقليديا، مع صمود النظام السوري وإسناده من قبل إيران وحزب الله، اللذين تحالفا معه لأسباب طائفية، أطال من أمد الحرب، وأبعد لحظة حسمها، لتحقيق الهدف الإسرائيلي المتمثل بتدمير المجتمع والدولة في سورية كما سبق أن فعل في العراق. 


المهم أنه بين حربي الغرب على العراق ومن ثم على سورية كان هناك فاصل أكثر من عقد من السنين، ازدادت خلاله قوة روسيا وتعززت خلالها إرادتها القومية التي عادت للبحث مجدداً عن مصالحها كدولة لها مصالح في المنطقة، فكان دخولها العسكري ميدان الحرب التي تعددت فيها القوى العسكرية حتى شملت معظم الدول الإقليمية وتحولت إلى ملف دولي، عاملا حاسما، منع سقوط النظام، لكن أيضا تحولت المواجهة العسكرية مع وجود قوى متعددة منها الروسية بالطبع، كذلك القوات الأميركية، التركية والإيرانية، ومن بعيد القوات الإسرائيلية، جعل من احتمال وقوع المواجهة العسكرية بين قوات هذه الدول أمرا محتملا، وبالتالي حمل مخاطر اندلاع حرب إقليمية صريحة أو حتى حرب عالمية ساخنة.


لكن حرص الدول التي تتواجد لها قوات عسكرية في سورية ميدانيا، منع اندلاع حروب من هذا النوع حتى اللحظة، لكن إقدام قوات الدفاع الجوي التركية في 24 تشرين الثاني العام 2015 على إسقاط طائرة السوخوي 24 الروسية، أظهر بوضوح تلك المخاطر، ولولا ضبط النفس الروسي، ومن ثم التقدير التركي لعدم التصعيد الروسي والذي تضاعف بعد ذلك بعدة أشهر حين ساعد الروس النظام التركي بالكشف عن محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15  تموز 2016، نقل تركيا من موقع الحليف للغرب والعضو في الناتو إلى الموقع الوسط بين الغرب وروسيا.


ثم كان يمكن أن تتواجه القوات العسكرية التركية في عملية عفرين مع القوات الأميركية، لكن حرص الجميع على تجنب الاصطدام العسكري ما زال يمنع حدوث ذلك، إلى أن قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف اللاذقية قبل أيام ما أدى إلى مقتل 15 عسكريا روسيا حيث توترت العلاقة بين الدولتين لدرجة أن أرسلت روسيا 35 طائرة سوخوي مع تقدم البوارج البحرية في المتوسط، ما يعني أن روسيا لم تقبل الاعتذار الإسرائيلي، وما زالت حالة التوتر قائمة، حيث من المؤكد أن تضطر إسرائيل إلى دفع ثمن سياسي باهظ، للحصول على العفو الروسي، فهل يصل ذلك إلى أخراج إسرائيل من الملف السوري بأكمله وتأكيد أن سورية قد باتت في حماية الروس، الذين سيبقون في المنطقة، مانعا لبسط السيطرة الأميركية والإسرائيلية، وربما في نهاية المطاف لإخراج أميركا من المنطقة، وإعادة ترتيب السيطرة والتحالفات بين الدول الإقليمية وفق معادلة سياسية جديدة. 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد