لا يتوقف استهداف الإدارة الأميركية للفلسطينيين، والقرار الأميركي أن الرئيس ترامب وطاقم مساعديه ومستشاريه سيذهبون في ضغطهم على الطرف الفلسطيني حتى أقصى ما يستطيعون، وذلك من خلال اعتماد فرضية أن ما لا يأتي بالضغط يأتي بمزيد من الضغط. فبعد الاعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس والحديث حول إزاحة مسألة القدس من قائمة المفاوضات، ووقف الدعم للسلطة الفلسطينية ووقف تمويل وكالة الغوث والجدل حول أعداد اللاجئين الفلسطينيين وأيضاً محاولة استبعاد قضية اللاجئين من طاولة المفاوضات، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن وطرد السفير وعائلته، وصل مستوى الضغوط إلى وقف دعم مشاريع تعزيز العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية على المستوى المجتمعي في إطار ما تشجعه الإدارات الأميركية المتعاقبة تحت عنوان "شعب لشعب". والفكرة التي يحملها ترامب هي أن على الفلسطينيين أن يقبلوا الصفقة الأميركية، أو أن يُحرموا من أي دعم ويتعرضوا لسلسلة عقوبات حتى يخضعوا ويسلموا بما تعرضه أميركا، وليس واضحاً إلى أين سيصل الأميركيون في ضغطهم.


النتيجة المباشرة للضغوط الأميركية كانت وقف العلاقة الفلسطينية- الأميركية، ورفض القيادة الفلسطينية حتى مجرد استقبال المبعوثين الأميركيين، ورفض الدور الأميركي كوسيط في العملية السياسية المنهارة أصلاً والتي لا أفق لها تماماً في ظل حكم اليمين الإسرائيلي المتطرف برئاسة بنيامين نتنياهو ، وهو ما أغضب ترامب وأخرجه عن طوره، فهو لم يتوقع من الفلسطينيين أن يقولوا لا لأميركا، وهم الضعفاء الذين لا ظهر لهم في ظل عالم عربي متفكك ويعج بالصراعات والمشكلات وتسيطر عليه الإدارة الأميركية باستثناءات قليلة جداً، وفي ظل صراعات دولية بدأها ترامب في المجال التجاري والاقتصادي، ومن وجهة نظره لا يملك الفلسطينيون ترف الرفض لما سيعرض عليهم، فالموضوع بالنسبة له أشبه بصفقة تجارية يقبل بها الفرقاء بالربح أو بالخسارة وفق معادلة القوة، تماماً كالمعادلات التجارية التي يحاول فرضها ويدخل بها المجتمع الدولي في حالة من الفوضى التي تتطلب العمل للتقليل من تبعات هذه السياسة المتهورة التي ت فتح باب حروب اقتصادية قد تنتهي بمواجهات أشبه بحرب عالمية ثالثة، حتى لو لم تكن عسكرية مباشرة، فالحربان العالمية الأولى والثانية وقعتا بسبب أزمات اقتصادية بالأساس. 


التصريحات التي نقلت على لسان مسؤول أميركي- حسب قناة العربية، تقول إن الإدارة الأميركية يمكن أن تتراجع عن وقف تمويل السلطة وإغلاق مكتب المنظمة في حال عاد الفلسطينيون إلى طاولة المفاوضات، وهذا ينطبق على دعم " الأونروا " مع وضع شروط عليها تتعلق بإعادة تقييم عملها وتوزيع عبء التمويل. وأن صهر الرئيس جاريد كوشنر يقول إن إدارته ستعلن عن خطتها السياسية " صفقة القرن " في شهر تشرين الثاني. وأن الموقف الأميركي ليس ضد الفلسطينيين على اعتبار أن قضيتي القدس واللاجئين من قضايا التسوية الدائمة، وهما للتفاوض. طبعاً يأتي هذا فقط لحث الفلسطينيين على التعاطي مع مشروع ترامب.


القيادة الفلسطينية التي ترفض الموقف الأميركي جملة وتفصيلاً بعد قرار نقل السفارة، قررت الذهاب نحو الأمم المتحدة لعرض القضية الفلسطينية مجدداً على الجمعية العامة التي تمثل المجتمع الدولي بأسره، وربما لطلب الحصول على الاعتراف بعضوية فلسطين الكاملة كدولة في حدود عام 1967 تحت الاحتلال، كما قررت رفع قضايا ضد الاحتلال في محكمة الجنايات الدولية في موضوع الاستيطان وقضية هدم التجمع البدوي في الخان الأحمر. ويذهب بعض القيادات على غرار أمين سر اللجنة التنفيذية صائب عريقات إلى التنبؤ بخطوات أكثر دراماتيكية من قبيل حل السلطة وتسليم المفاتيح، أو وقف التنسيق الأمني وإعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل بما في ذلك سحب أو تجميد الاعتراف بها. ولا يبدو الموقف الفلسطيني من هذه الخيارات واضحاً ربما بانتظار ردود الفعل الدولية وليس قبل اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر هذا الشهر.


في الواقع، من يرصد ردود الفعل الفلسطينية على القرارات الأميركية سواء الرسمية منها أو الشعبية، يدرك أننا في وضع صعب للغاية والخيارات أمامنا قليلة وقدرتنا على تغيير الوضع الراهن محدودة. وبعيداً عن الشعارات الثورية الطنانة، ليس من السهل على السلطة أن تحل نفسها أو أن تجري تغييراً جوهرياً في العلاقة مع إسرائيل، لأسباب عديدة منها تحكم إسرائيل الكامل في مختلف مناحي الحياة الفلسطينية، فلو أعلنا على سبيل المثال حل السلطة وأعلنا دولة وأصدرنا جوازات سفر فلسطينية وقامت إسرائيل بمنع حاملي هذه الجوازات من مغادرة البلاد ماذا نفعل؟ وهل يتحمل المواطنون وضعاً كهذا؟، ولو ألغينا اتفاق باريس ومنعت إسرائيل التجارة الفلسطينية وأوقفت جبي الضرائب فما بديلنا؟ ولو قررنا حل أنفسنا وذهبنا إلى الفوضى فماذا سيحل بنا؟ وهل عودة الاحتلال للسيطرة على كل شيء تحل مشاكلنا حتى لو كانت إسرائيل تتحمل أعباء أمنية ومالية جديدة؟


من الطبيعي جداً ومن المتوقع كذلك أن نبحث عن خيارات وبدائل لتغيير واقعنا ولعدم الاستسلام للإرادة الأميركية- الإسرائيلية التي تريد إنهاء القضية الفلسطينية بحل لا يلبي الحد الأدنى من أهدافنا وطموحاتنا الوطنية. ولكن يجب دراسة الوضع بكل تفاصيله واتخاذ قرارات صائبة نكسب منها أو على الأقل نحافظ على ما لدينا ولا نخسر جراءها. فالصمود والحفاظ على المقدرات هو أيضاً خيار. ولا معنى على الإطلاق لاتخاذ قرارات جزئية غير مدروسة قد تأتي بتبعات وأضرار كبيرة، ولا معنى لأن يبقى الانقسام ونطالب المجتمع الدولي الانتصار لنا حتى لو كان هذا حقنا. علينا أن ننتصر لأنفسنا وننهي هذا الانقسام البغيض والكارثي، وهذا سيكون أول الردود وأهمها في مواجهة الغطرسة الأميركية والمشروع الاستعماري- الاستيطاني الإسرائيلي، ومن هنا ننطلق نحو استراتيجية عمل موحدة عقلانية مدروسة، حتى نتجاوز هذه المرحلة بأقل الخسائر أو بالحفاظ على ما لدينا من إنجازات وتعزيزها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد