علينا أن نعترف أن «محاكمة» أوسلو اليوم أصبحت ممكنة، وباتت ضرورية، ولم يعد الأمر يحتاج إلى أي تردّد أو تمهّل طالما أن التجربة قد أفرزت دروسها ووقائعها إلى الدرجة التي تتحول بعض هذه الوقائع إلى حقائق «مستقرّة» على الأرض.
بعيداً عن الآراء المتشنّجة التي حاولت إدراج اتفاقيات أوسلو في اطار «مخطط» جهنّمي، ومؤامرة كونية «اشتركت» فيها عن وعي وإدراك ومعرفة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، فهذه افكار اندثرت الآن ولم تعد مسنودة سوى من أوهام أصحابها، أو بالمقابل محاولات إدراج تلك الاتفاقيات باعتبارها أكبر اختراق استراتيجي للمشروع الصهيوني، وكضربة موجعة وجهت لهذا المشروع، وبعيداً عن هذين الفهمين فإن اتفاقيات أوسلو في الواقع لم تكن نتاج إرادوية فلسطينية، ولا حتى مجرد محاولة لاقتناص «الفرصة»، ولا هروباً من واقع دولي وإقليمي ضاغط.. (فهذه العوامل كلها واردة وصحيحة)، وإنما قراءة للمرحلة الجديدة والاختيار بين مجابهة تفتقد إلى الإمكانيات، وقد تنطوي على مغامرة انتحارية، وبين المحافظة على الذات (الذات الوطنية المتمثلة بالمنظمة) وخوض مغامرة من نوع آخر، وهي مغامرة الوصول إلى اتفاقيات ت فتح الطريق للتحول من واقع سلطة محدودة ومقيدة الصلاحيات نحو إمكانية «الدولة» عند درجة معينة من تطور مسار هذه الاتفاقيات. ولو كنا نحن (الذين نكتب عن أوسلو بعد ربع قرن في موقع القرار الفلسطيني فهل كنا سنختار غير الذي اختارته القيادة الفلسطينية) أو بالأحرى إلى أي درجة كنا سنكون مختلفين عن خيار القيادة آنذاك؟!
لا أعتقد أن الوطني المنصف والمنسجم مع نفسه كان يمكن أن يختار ويقرر بصورة مختلفة جوهرياً عن خيار القيادة وقرارها.
لكن، هل صحيح أن الظروف لم تكن تسمح بأكثر مما حصلت عليه قيادة المنظمة في ذلك الوقت؟، وأن إسرائيل لم تكن بحاجة إلى الاتفاق، وأنها قبلت به بهدف (ترويض المنظمة وتدجينها) على طريق إفراغها من محتواها وما تمثله عن طريق القضاء عليها؟!
وهل صحيح بالمقابل أن الاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني يوازي في قيمته ومعناه ومغزاه ومحتواه الثمن الذي دفع والذي تمثل في الاعتراف بدولة إسرائيل.
كل هذه الأسئلة محقّة ومشروعة، وفي الإجابة عنها تكمن أهمية قراءة هذه الاتفاقيات بعد ربع قرن من التوقيع عليها.
في الإجابة عن سؤال الظروف، وفيما إذا كانت تسمح بالحصول على أكثر مما حصلت عليه القيادة آنذاك يمكن تحديد القضايا التالية:
كان يجب أن ندرك الفرق الكبير بين الاعتراف بالحق في الوجود، والاعتراف بالوجود.
الفرق هنا ليس لفظياً وإنما هو فرق قانوني جوهري.
الاعتراف بحق الوجود فيه خطيئة سياسية وفكرية هائلة، أما الاعتراف بالوجود فهو سياق للاعتراف بالأمر الواقع وهو مجرد خطأ سياسي من حيث الثمن الذي يمكن الحصول عليه مقابل الاقرار به، وشتان ما بين هذا وذاك.
قد أفهم (ولا أتفهم) أن لا تقبل إسرائيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية مقابل اعتراف المنظمة بالأمر الواقع القائم والذي يتمثل بوجود إسرائيل.
لكن لا أفهم ولا أتفهم، ولا يجدر بأي وطني أن يفهم أو يتفهم أن نقبل الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود مقابل الاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد وكمجسّد لأهدافه وحقوقه الوطنية.
نحن أخطأنا هنا الخطأ الكبير وما كان يجب أبداً أن نقع فيه.
هذا هو الفخّ الحقيقي الذي نُصِبَ لنا في حينه، وهنا تتجلّى كل المغامرة التي لم نحسب حسابها جيداً.
ليس صحيحاً أبداً أن إسرائيل كانت سترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية مقابل اعتراف المنظمة «بحق» إسرائيل في الوجود، ولكن صحيح تماماً أنها (أي إسرائيل) كانت سترفض الاعتراف بالدولة مقابل الاعتراف بالأمر الواقع. أي وجود إسرائيل كأمر واقع.
إذن المسألة ليست الاعتراف بالدولة الإسرائيلية وإنما الاعتراف بحق الدولة.
ألم يكن الاعتراف بحق الدولة يوازي الحق بقيام الدولة المقابلة على 22% من الأرض التاريخية؟
هل كانت إسرائيل سترفض المقايضة إذا كنا نتحدث عن مقايضة هنا؟!
لقد انطلى على بعض الفلسطينيين والعرب كلام شمعون بيريس آنذاك من أن إسرائيل قد دخلت إلى أوسلو من موقع كرم الأخلاق، ومن موقع غير المجبر، ومن موقع محاولة إنهاء هذا الصراع بصورة نهائية! من مركز القدرة والقوة والتفوق الأخلاقي! هذا كلام ديماغوجي ليس له أي أساس سوى القدرة على الادعاء.
أما وان إسرائيل (من حسن الحظ) قد أفشلت «أوسلو» سواء بتردد اليسار والوسط أو برفض وعنجهية اليمين واليمين المتطرف، وأن الأداء الفلسطيني لم يكن بمستوى استثمار «الفرصة» للتحول من السلطة إلى الدولة، وبما أن أحداً في هذا العالم لا يصدق أن هذه الاتفاقيات بقي فيها ولها ما يمكن الحديث عنه بعد شطب القدس وتنحية وتحييد قضية اللاجئين، وإنهاء إمكانية الذهاب إلى حل الدولتين (من وجهة نظر إسرائيل) والتغول في المصادرة والاستيطان وصولاً إلى الاستباحة والعزل الكامل للقدس، والإمعان في تجويع غزة وحصارها وابتزازها، والسيطرة المطلقة على الموارد الطبيعية والتحكم الكامل بالحدود من النهر إلى البحر.. فقد أتت اللحظة المناسبة لإنهاء هذه المهزلة السياسية، بعد أن أصبحت هذه الوقائع في السياسة الإسرائيلية مسنودة بالكامل من الإدارة الأميركية، وبعد أن تحول دور الولايات المتحدة من الراعي المنحاز إلى المقاول الشريك في هذه السياسة.
لقد آن الأوان لتصليح وتصحيح المسار كله.
ولذلك فلا سبيل إلاّ الوضوح التام. والقرارات الهامة والمصيرية. 
لقد اقترحت على دورات المجلس المركزي أكثر من مرّة، وكتبت على أبواب المجلس الوطني أن الأمر بات يتطلب مصارحة العالم بالموقف الفلسطيني المطلوب بعد النهاية التي وصل إليها كل مسار أوسلو.
والمفترض أن نعلن ذلك على منبر الأمم المتحدة وأن نضع العالم والمجتمع الدولي أمام مسؤوليته المباشرة على هذا الصعيد.
الصيغة المفترض طرحها (كما أرى) هي بالتقريب والوجهة التالية:
نجدد نحن في منظمة التحرير الفلسطينية التزامنا الكامل بالشرعية الدولية والقانون الدولي ونرفض رفضاً كاملاً كل السياسات الإسرائيلية المستمرة وتنكّرها لهذه الشرعية وهذا القانون.
ونحمّل الحكومة الإسرائيلية الحالية تحديداً، وكذلك الحكومات المتعاقبة إفشال الاتفاقيات الموقعة معنا، والتنكّر الكامل لأسس ومبادئ وبنود هذه الاتفاقيات، وخصوصاً في قضايا الحل النهائي، وهي القدس واللاجئين والحدود والمياه وقضايا أخرى كثيرة مما يحتّم علينا الإعلان عن انتهاء التزامنا بهذه الاتفاقيات، ولكل ما ترتب عليها إلى أن يتمكن المجتمع الدولي من إلزام إسرائيل بالعودة إلى مفاوضات جادة، ومرجعية واضحة من أسس ومبادئ وقيم الشرعية الدولية والقانون الدولي.
والى أن يتم ذلك فإن منظمة التحرير الفلسطينية تعتبر أن الاعتراف المتبادل لا بد وأن يتم بين دولتين على حدود الرابع من حزيران.
وبما يحقق أهداف الشعب الفلسطيني ويجسّد حقوقه في دولة مستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية وبما يكفل حلاً عادلاً لقضية اللاجئين على أساس القرار 194. فإما حق مقابل حق وإما أمر واقع مقابل أمر واقع.
ولكن وفي مطلق الأحوال الاعتراف بين دولتين قائمتين ومعترف بهما دولياً على نفس الدرجة وعلى نفس الأسس ووفق نفس القانون.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد