مهما قيل في اتفاق "اوسلو"، الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية مع حكومة إسرائيل برئاسة اسحق رابين، من مزايا أومثالب فهو كان ممراً إجبارباً للمنظمة بعد أن سدت في وجهها كل السبل وبعد ان تعرضت لحصار ظالم، وبعد فشل آليات التفاوض التي بدأت في مؤتمر مدريد، ولكن هل يعني هذا أن التفاصيل والأخطاء وربما الخطايا كانت قدرا محتوماً؟ بالتأكيد لا، فالكثير من التفاصيل التي تضمنها الاتفاق كان ممكناً تحسينها وتلافي نتائجها الكارثية حتى لو كانت مسألة التسوية الدائمة غير مضمونة بسبب التطورات في إسرائيل منذ اغتيال اسحق رابين، وأيضاً بسبب أخطاء وحسابات فلسطينية كارثية.


لو عدنا للوراء قليلاً أي ما قبل ربع قرن من الزمن يمكننا أن نتفهم دوافع القيادة الفلسطينية في البحث عن حل يعيدنا للوطن ويكرس ما أفرزته الانتفاضة الأولى، وهو نقل مركز ثقل النضال الوطني الى أرض الوطن بعد اجتياح لبنان وخروج المنظمة من لبنان الى تونس بعيداً عن حدود فلسطين. وعند التدقيق في الظروف التي صاحبت مفاوضات "أوسلو" السرية والخيارات التي كانت قائمة آنذاك يمكن استيعاب نمط تفكير قيادة المنظمة والرئيس الراحل ياسر عرفات. ولكن هذا التفكير الواقعي والايجابي لم يترجم الى سياسة مدروسة وقائمة على فهم العدو بصورة عميقة وجدية. وتعامل المفاوضون والقيادة بحسن نوايا مفرط للغاية، وهذا تجلى في ثلاث مسائل جوهرية شكلت ثغرات قاتلة في "أوسلو" وهي أولاً عدم تضمين الاتفاق نصاً واضحاً وملزماً بوقف الاستيطان وربط كل الالتزامات بتنفيذ هذا البند وهو بند منطقي اذا كنا نعتقد أن نهاية "أوسلو" قيام دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، فمعنى أن تستمر اسرائيل بمصادرة الأرض والاستيطان والتهويد قتل فكرة الدولة الفلسطينية أي حل الدولتين.


المسألة الثانية، القدس ، فحتى لو تركت هذه القضية لمفاوضات التسوية الدائمة كان من المفروض الزام اسرائيل بعدم تغيير الواقعين الديمغرافي والجغرافي في المدينة حتى التوصل الى اتفاق بشأنها. بما لا يسمح لاسرائيل بالاستمرار في تهويد المدينة وخلق أمر واقع يعقد الحل. فالذي حصل بعد التوقيع على الاتفاقية أن اسرائيل شعرت أن يدها طليقة في الاستيطان والتهويد واستهداف القدس ومحيطها بصورة كبيرة، الى درجة أنه في ظل حكومة "العمل" التي وقعت على اتفاق "أوسلو" معنا ازداد عدد المستوطنين بنسبة 50%. هذا عدا عن تقليص مساحة الأراضي الفارغة في الضفة الغربية وتوسيع الكتل الاستيطانية بصورة هائلة وخاصة "معاليه أدوميم" و"جبل ابو غنيم" ومستوطنات الخليل.


أما المسألة الثالثة، تقسيم الأراضي الفلسطينية الى (أ) و(ب) و(ج) بشكل لا يوحي بأن المفاوض الفلسطيني يدرك معنى هذا التقسيم الذي يتيح لاسرائيل خلق كنتونات ومعازل فلسطينية غير متواصلة جغرافياً، وأكثر من هذا ابقاء السيطرة الإسرائيلية على غالبية المناطق المحتلة في اطار المناطق المصنفة (ج) والتي تتمتع فيها سلطات الاحتلال بالسيطرة المدنية والأمنية أي حرية أن تفعل بها ما تشاء. ولو كان المفاوض الفلسطيني يدرك ماهية  النقاط التي وضعتها اسرائيل لحدود المناطق (أ) و(ب) وما تعنيه من احكام السيطرة على الأرض والتحكم بمصيرها لربما لكانت اختلفت نظرته للاتفاق. وهذا بالمناسبة يعبر عن احتكار المعرفة لدى مفاوضين قليلين دون الاستعانة بالخبراء على عكس ما فعلت الحكومة الاسرائيلية التي جلبت أهم وأخطر الخبراء والمفاوضين لصياغة الاتفاق بصورة محكمة تضمن تحكم اسرائيل بكل المفاصل.


وطبعاً، هناك قضايا أخرى لا تقل  أهمية لو لم تكن تتعلق بالأرض لم ينتبه لها المفاوض الفلسطيني مثل موضوع الافراج عن كافة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين كشرط طبيعي  لتطبيق الاتفاق. كما أن اتفاقية "باريس" الاقتصادية لم تأخذ بالاعتبار التطورات الاقتصادية المحتملة في المناطق الفلسطينية وكان يجب أن تكون متدرجة وتضمن التغيير والتعديل بناءً على سير الأوضاع الاقتصادية في مناطق السلطة الفلسطينية لا أن نبقى أسرى لها الى حين التوصل الى تسوية دائمة.


قد يكون المفاوضون والقيادة الفلسطينية بنوا استراتيجيتهم على توقع التوصل الى تسوية دائمة للصراع في غضون خمس سنوات حسب نصوص الاتفاقية، ولم يتوقعوا انقلاباً اسرائيلياً على الاتفاق بدءاً من اغتيال رئيس الوزراء آنذاك اسحق رابين وسيطرة اليمين على الحكم والتنكر لكل ما ورد في الاتفاق ما عدا ما يمثل مصلحة اسرائيلية خالصة كالتنسيق الأمني.


أخطاؤنا لم تقتصر على عدم فهم العقلية الإسرائيلية وعدم التدقيق في البنود والصياغات الواردة في الاتفاق، بل تعدتها لخطأ كارثي سبب في توجيه ضربة قاصمة للمشروع الوطني، وذلك في العودة للكفاح المسلح واستخدام المتفجرات ضد المدنيين الإسرائيليين، حتى لو دفعتنا اسرائيل الى هذا المربع باستخدام أقصى العنف، فهذا ما كان اليمين الإسرائيلي يريده، ونحن سقطنا في الفخ وساهمنا بتقوية اليمين الاستيطاني المتطرف وتسلمه للحكم، كما أن هذا منح " حماس " القوة والنفوذ الى مستوى الفوز بالانتخابات ولاحقاً الانقلاب على السلطة والسيطرة على قطاع غزة بالقوة وخلق الانقسام الذي شكل أخطر ما تعرض له المشروع الوطني.


ونحن الآن عالقون في مستنقع الانقسام من جهة والسياسة اليمينية الإسرائيلية المدعومة من ادارة أميركية هوجاء تذهب بعيداً في انحيازها وتطرفها ضد الشعب الفلسطيني ولا تفهم سوى لغة العقوبات في التعامل مع الرفض الفلسطيني للمواقف الأميركية التي تدمر فعلياً فرص السلام من جهة أخرى. وعملياً "أوسلو" في حالة موات سريري ولا أمل في الأفق في إنقاذ التسوية الدائمة وقيام دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، ونحن لا حول لنا ولا قوة سوى التعبير عن الرفض، مع أن هذا لا يكفي ونحن بحاجة لاستراتيجية نضالية جديدة تقوم أساساً على إنهاء الانقسام ومواجهة المشروع الاستيطاني بوحدة وطنية كاملة وشاملة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد