في 1988 بالجزائر، قدم الشاعر محمود درويش قصيدته “مديح الظل العالي”، ومنها: “إنَّ الصليب مجالُك الحيويُّ، مسراكَ الوحيدُ من الحصار إلى الحصارِ”، في ادراك مبكر للنهايات أو بحثا عن انتصار ممكن بعد الانسحاب الإجباري من بيروت. حدث ذلك خلال مؤتمر تاريخي لبرلمان منظمة التحرير الفلسطينية، المجلس الوطني الفلسطيني، حيث أعلن الرئيس الراحل ياسر عرفات وثيقة الاستقلال وتبني حل الدولتين، دولة فلسطينية على حدود هزيمة 4 يونيو/حزيران 1967 بما يعادل 22% من فلسطين التاريخية، والباقي، 78% لإسرائيل؛ وهو ما أطلق عليه الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس “الحق النسبي” بدلا من “الحق التاريخي”.
بعدها، دخل الفلسطينيون في متاهة السياسة، وموازين القوى الدولية الذي شهد هبوطا في ميزان القوة العربي الفلسطيني، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية وبداية تدمير العراق. وجد الفلسطيني نفسه أمام مؤتمر مدريد للسلام، الذي أفضى إلى “صفقة أوسلو”، والتي كانت بدورها تلبي لإسرائيل اشتراطاتها الأمنية الصارمة، وللفلسطينيين محاولات استرجاع “الحق النسبي” على “مراحل”.
مفاوضات عسيرة بين ضعيف وقوي، أبدت خلالها إسرائيل تأييدها لحكم ذاتي في قطاع غزة فقط (1% من فلسطين)، وطالبت منظمة التحرير بمدن أخرى في الضفة الغربية (21% من فلسطين). رفضت إسرائيل، لكن ياسر عرفات أصر على أي مدينة كي تكون بوابة للعودة وللربط بين مدن الدولة الموعودة. في الأخير، قبلت إسرائيل بالتنازل عن مدينة أريحا وهي مدينة محاصرة بكل شيء إسرائيلي ومعزولة وبعيدة عن وسط الضفة، فالهاجس الاسرائيلي هو الأمن والقلق الفلسطيني هو الأرض.
عاد الفلسطينيون ونشأت السلطة الوطنية بشكل رئيسي في قطاع غزة، وبدؤوا يراكمون مظاهر الدولة بانتظار الدولة. وفعلا، حققوا نجاحات من جواز السفر إلى مطار، ولاحقا حصلوا على قلب المدن في الضفة. عند الموعد المحدد للتفاوض حول الوضع النهائي للاستقلال (عودة اللاجئين، القدس ، ترسيم الحدود ، وقف الاستيطان)، عرض الرئيس الامريكي بيل كلينتون على الفلسطينيين التنازل عن القدس، مما دفع الرئيس عرفات لإعلان الرفض وانطلقت انتفاضة فلسطينية مسلحة دفعت شارون عام 2005 إلى الانسحاب من قطاع غزة، والتمدد في الضفة الغربية التي يسميها الإسرائيليون “يهودا والسامرة”؛ وذلك بعد عمليات عسكرية شرسة قضت على جيوب المقاومة في ” عدوان السور الواقي 1-2″. بدأت إسرائيل تقيم جدرانا مرتفعة تعزل مناطق الكثافة السكانية عن الأرض والمستوطنات، وصممت طرق إلتفافية للمستوطنين بعيدا عن الاحتكاك بالفلسطينيين. بذلك، أصبح المشهد في الضفة استيطانا وفرض وقائع.
في غزة، اختلفت فتح و حماس على ما تركه شارون عمداً، وكانت انتخابات 2006 التي أفضت لفوز حماس. بدأ الاختلاف يتحول إلى خلاف ثم إطلاق نار، وقرر الرئيس الفلسطيني عدم الاشتباك بين عناصر السلطة الضعيفة والمنهارة، ومسلحي حماس. رحلت القيادة إلى الضفة لإدراكها أن المعركة هناك وليست في غزة، وأنها اذا حققت حلم الدولة، ستأتي غزة طوعا أو كرها.
منذ سيطرة حركة حماس سنة 2007، غرقت غزة في الأزمات بفعل الحصار الاسرائيلي، وثلاثة حروب، حتى جاء ما يسمى بالربيع العربي ورفع الإخوان المسلمون شعار نصرة غزة التي تعتبر أول أرض تقام عليها سلطة للإخوان المسلمين. علا صوت غزة كرمز للمعاناة والبطولة في نفس الوقت، وقال فيها أمير قطر حمد آل ثاني: “لولا غزة، ما دخلنا مصر”.
طغى حضور غزة حتى على القدس، بما لها من رمزية وأهمية عربية وإسلامية، رغم أنها العاصمة. بمرور الوقت، بدا واضحا أن تضخيم غزة كان تقاطع مصالح (غير مباشر!) بين إسرائيل التي تريد فصل غزة، وأطراف إقليمية مولت سلطة حماس للبقاء في غزة بداية من جماعة الاخوان المسلمين حتى إيران، مرورا بقطر وبدرجة أقل تركيا.
اعتبرت إسرائيل أنها حققت ثلاث انجازات هامة منذ نشأتها، وهي قيام الدولة عام 1948، هزيمة العرب عام 1967، ووقوع الانقسام السياسي الفلسطيني. الإنجاز الأخير جعل إسرائيل تحقق عدة مكاسب:
- عزل ثلث الفلسطينيين، 2 مليون نسمة، على أقل أرض (1%)؛ مما يعني حسم الصراع السكاني.
- إعلان عدم وجود شريك فلسطيني قادر على السلام، بسبب الانقسام بين سلطتين.
- إظهار الفلسطينيين كأعداء هدفهم تدمير إسرائيل.
- تعزيز التناقض بين فتح وحماس بدلا من التناقض مع الاحتلال.
- إخلاء مستوطنات صغيرة في غزة والاستيلاء على 60% من الضفة، بمقدار 12 ضعف لحجم قطاع غزة.
في المقابل، أرادت منظمة التحرير تحويل خسارة غزة إلى فرصة، وذلك من خلال عرض نموذجين للعالم واسرائيل: نموذج مسلح يريد القضاء على إسرائيل، ممثل في حماس وحكمها في غزة، وهو يمنع الاستقرار؛ ونموذج فلسطيني معتدل يحظى باحترام العالم وتقدير البنك الدولي لمعدلات النمو والتطوير المؤسساتي، بالإضافة إلى قيادة تتبنى النهج السلمي. لكن، للأسف ما حدث هو أن حماس قبلت بهدنة في غزة تحفظ حكمها ورفضت مصالحة تنزع منها حكمها، فيما تحولت فتح الى سلطة بدون سلطة في الضفة وتلاشت مع الرئيس ترامب فرصة تحقيق الدولة المستقلة حتى لو كانت منزوعة السلاح.
سألت في احدى الجلسات الخاصة أحد كبار القادة الفلسطينيين ما هو جوهر الصراع الان، فرد قائلا: “يتمثل في رقمين: 6 مليون فلسطيني +6 مليون يهودي على هذه الأرض وفق الرؤية الفلسطينية. لكن اسرائيل تقول 4 مليون فلسطيني+ 6 يهودي، باستثناء غزة، ليبقى 2.5 مليون في الضفة، 1.5 داخل فلسطين التاريخية”.
للعلم، فقد أقر الكنيست الإسرائيلي قانون القومية اليهودي؛ وهو قانون يضع مقدمات لطرد أو عزل 1.5 فلسطيني في الداخل، بمعنى أن إسرائيل تريد تفكيك 4 مليون فلسطيني في المستقبل، بحثا عن دولة يهودية خالصة، وحل اقليمي للقضية الفلسطينية يتحمل فيه العرب المسؤولية عن الفلسطينيين.
المعروض على الفلسطينيين فتح وحماس هو دولة غزة في بقعة فقدت المياه الصالحة للشرب، وفيها أعلى معدلات البطالة عالميا، وأعلنت الأمم المتحدة أنها مكان سيصبح غير صالح للحياة عام 2020، وكثير من الازمات. فمن لا يقبل بدولة غزة، “هناك من سيملأ الفراغ”، كما هدد مبعوث ترامب للشرق الاوسط جيسون جرنبلات قبل أيام، محذرا الرئيس عباس، وهنا نتذكر محمود درويش: “أمريكا هي الطاعون، والطاعونُ أمريكا”.
ملاحظة أخيرة: هناك حديث متنامي عن توسعة غزة في شبه جزيرة سيناء المصرية، لكن كل الأطراف من القاهرة إلى فتح وحماس، ترفض المقترح الذي تتبناه إسرائيل في تفكير المستقبل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية