بوقاحة شديدة تواصل السياسة الأميركية مخططات تصفية القضية الفلسطينية وليس فقط الحقوق التي رتبها القانون الدولي، وما يتعلق منها بالأراضي المحتلة العام 1967.

ما تقوم به الولايات المتحدة هو بالضبط استكمال للمخطط الصهيوني الإمبريالي الأصلي الذي قام في الأساس على فكرة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». هذا ليس كلاماً إنشائياً أو تحريضياً ولا هو كلام شعاراتي، ذلك أن قرار أساس القومية، يكثف عمليا الأبعاد الحقيقية لتلك المخططات، إذ لم يعد ثمة إمكانية لدولتين، أو دولة ثنائية القومية، أو دولة ديمقراطية، فالعنصرية الصهيونية تطيح بكل هذه الممكنات، بما يجعل الشعب الفلسطيني كله بما في ذلك في أراضي العام 1948، يواجه التحديات والمهمات الوطنية ذاتها بدون تمييز.


إذاً، هو الصراع المفتوح على كل الحقوق التاريخية وعلى كل الأرض الفلسطينية، صراع يعود إلى الجذور، بما أنه صراع وجود وليس صراع حدود لا بالنسبة للجغرافيا، ولا بالنسبة للزمن أو الوسائل. إنها تداعيات اللحظة السياسية، الصعبة التي تمر بها الأمة العربية والمنطقة عموماً، والتي تقود الحركة الصهيونية إلى قراءات خاطئة لحركة التاريخ، ونحو استثمار إدارة أميركية غير مسبوقة من حيث تطابق سياساتها مع المخططات التوسعية والعدوانية الصهيونية.


بكل صلف وتحد تعلن الإدارة الأميركية وقف ما تبقى من ثلاثمائة وسبعين مليون دولار، هي مقدار مساهمتها في ميزانية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، مشفوعا إعلانها بآخر يتحدث علناً عن ضرورة إنهاء « الأونروا »، كمرجعية قانونية، وأدوات، وأهداف وأبعاد سياسية. تعتقد الولايات المتحدة أن بإمكانها أن تتحدى المجتمع الدولي بإلغاء القرار 194، الذي اتخذته الجمعية العامة العام 1949، كمرجعية قانونية دولية للحفاظ على حق الفلسطينيين في العودة وذلك من خلال تجفيف مواردها، وصولاً إلى إنهاء وجودها. نتنياهو الذي لم يكف عن الإعلان عن الحاجة لإنهاء «الأونروا» ودورها، يبدي استعداداً لجمع وتوفير أموال كافية لضمان حياة أفضل للفلسطينيين دون وجود «الأونروا». إنها فكرة السلام الاقتصادي التي اخترعها قبل بضع سنوات، ويرى أن الوقت بات مناسبا لفرضها بحيث تتحول الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني إلى مجرد الحفاظ على الحياة دون كرامة ودون أي حقوق سياسية وحتى دون هوية وطنية لشعب يتجاوز تعداده الـ12 مليون إنسان نصفهم على الأرض الفلسطينية. 


إذاً، الولايات المتحدة تتكفل بإنهاء الوكالة قانونياً وسياسياً فيما تتكفل إسرائيل بإنهائها إدارياً، على الأقل كخطوة أولى في الضفة الغربية حيث تبسط إسرائيل سيطرتها. وكاستكمال لذلك المخطط تسعى الولايات المتحدة لتحويل الأموال التي يتحدث عنها نتنياهو إلى الدول المضيفة، لكي تقوم بالدور وبالنيابة عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا».


هذا يعني أن الولايات المتحدة ستمارس ضغوطاً هائلة على الدول المضيفة للاجئين. لا تكتفي الإدارة الأميركية بذلك بل أنها تعلن بأنها، ستسمح لدول الخليج بأن توفر الدعم للأونروا هذا العام فقط وبشروط أميركية لا نعرف ماهيتها بعد. لكأنها تعلن على الملأ أنها صاحبة القرار، بالنسبة لسياسة الدول الخليجية، الأمر الذي يستدعي من هذه الدول اتخاذ مواقف واضحة إزاء ادعاءات واشنطن. 


أميركا تتحدى الجميع، فلسطينيين وعربا، ومجتمعا دوليا، ذلك أنها فضلاً عما ورد تسعى لتقويض النظام الدولي، ومنظومة الأمم المتحدة، والمستهدفة بمكانتها وتراثها ودورها، ونحو الرضوخ لسياسة الدول الأكثر مساهمة مالية في ميزانية المنظمة الدولية.


أميركا تتقمص أهداف وبرامج وسياسات ومصالح إسرائيل التي ما التزمت يومياً بأي قرار للأمم المتحدة بعد قرار الاعتراف بها، وما احترمت دور هذه المؤسسة إزاء أي عمل يتصل بالصراع الفلسطيني والعربي الصهيوني. في الواقع فإن على الفاعلين الدوليين أن يبرروا حضورهم واستقلالية مصالحهم وأدوارهم، فالولايات المتحدة تتحدى أمنهم واقتصادياتهم ويتبجح نتنياهو قبل أيام بأن إسرائيل هي التي تحمي الأمن الأوروبي.


لم تبق دولة تحترم ذاتها، وتحوز على وزن في النظام العالمي إلاّ وطالتها اليد الأميركية بالعقوبات، والاستفزازات، من الاتحاد الأوروبي إلى روسيا والصين، وكندا والمكسيك وإيران وكوريا الشمالية، عدا الدول العربية، الأمر الذي يهز من الجذور النظام الدولي القائم ويمتحن كرامات واستقلاليات شعوب الأرض.


في هذه المواجهة الخطيرة، يمكن للفلسطينيين أن يربحوا المعركة بخلاف ما حصل بالنسبة للقرار الأميركي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، رغم الفشل في إقناع المزيد من الدول لكي تحذو حذو واشنطن.


الجمعية العامة للأمم المتحدة على الأبواب، وبمقدور الفلسطينيين أن يحصلوا على أغلبية كبيرة، لرفض القرار الأميركي الإسرائيلي وإعادة تحصين القرار الخاص بعودة اللاجئين، وهو أمر مهم على المستويين القانوني والسياسي. لكن المسألة لا تقف هنا فقط، إذ يترتب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته إزاء تعويض خسارة المساهمة المالية الأميركية في موازنة «الأونروا»، من خلال زيادة مساهمات الدول خصوصاً الأوروبية، وقد ظهرت مؤشرات مهمة على هذا الصعيد من اليابان وروسيا وألمانيا وحتى إنكلترا. من المهم التنبيه إلى خطورة أن تكون المساهمات الخليجية المالية هي الأساس إذ إن واشنطن قد تقبل الآن تعريب «الأونروا» من خلال حجم تلك المساهمات.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد