وكأن اندفاعة التهدئة بين " حماس " وإسرائيل تراجعت. لا أعرف إن كان هذا خبراً سيئاً أو جيداً لسكان قطاع غزة ، الذين تعرضوا لأشرس عملية سحق مر بها شعب، أفقدتهم توازنهم لتنعدم لديهم القدرة على إصدار حكم على ما يجري بين إسرائيل و"حماس"، فهم من جهة يعتبرون أنفسهم خزان المشروع الوطني وسر انطلاقته وتتلبسهم رواية أن لديهم مسؤولية بالاستمرار مهما دفعوا من ثمن ودماء ودموع، وفي نفس الوقت فإن السنوات العجاف السابقة جعلتهم يتوقون لأي حل بعد أن أكلوا التراب وابتلعوا الحصى وتركوا على قارعة السياسة كالأيتام على مائدة الطعام.


أمعاؤهم الفارغة وطريقهم المغلقة وكرامتهم المهدورة وكبرياؤهم المكسور مع التهدئة، لكن عقولهم النابضة بالحلم ضدها وكأن عليهم أن يعيشوا هذا التشتت وحدهم بعد أن تم وضعهم كفئران تجارب في مختبر كاد يمسح ذاكرتهم وأعاد قلب أولوياتهم بعد أنجح عملية كي وعي، أعْترِف أن من هندسها كان على درجة من الدهاء، وهو بالقطع ليس أي من الأطراف الفلسطينية، بل أن تلك جرى استخدامها في تلك العملية، هكذا قال اللواء مصطفي البحيري الذي ترأس الطاقم الأمني المصري في ذروة أحداث 2007 السوداء.
الاندفاعة تراجعت. فإذا كان وزير بحجم أفيغدور ليبرمان يتنصل من مفاوضاتها، مدعياً أنه لم يكن مشاركاً، في حين أنه هو من التقى وزير الخارجية القطري نهايات حزيران الماضي للبحث في أمر التهدئة وآلية تمويلها من الخزينة القطرية بالتأكيد، وهذا سبقه معارضات إسرائيلية أبرزها موقف "الشاباك" وعلى الجانب الفلسطيني أيضاً برز بعض المعارضات من الوفد المشارك في مفاوضاتها، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن هنا وهناك بات واضحاً أن كل يوم يمر تزداد فيه المعارضة لما يحدث من مفاوضات.


لكن بعض المصادر الإسرائيلية، وكما قالت صحيفة الأخبار اللبنانية، يقول: إن بنود تهدئة غزة تترتب وتحركات قد تؤدي لنقلة كبيرة في مسار الاتفاق، ويذكر أن جريدة الأخبار كانت أول من نقل عن عرض التهدئة لحركة "حماس" في نيسان الماضي، والذي كذبته "حماس" حينها وكذلك إسرائيل، ثم اتضح لاحقاً أن المسار كان قد بدأ منذ ذلك التاريخ بوساطة نيكولاي ميلادينوف ممثل الأمم المتحدة.


ما بين خفوت الاندفاعة وتأكيد الجريدة وكذلك الصحف الإسرائيلية، يبدو الأمر ملتبساً في ظل شح المصادر. لكن بات واضحاً أننا أمام مسار جديد قد بدأ، سواء بسبب تغيير واقع الهدوء الذي ساد بعد عدوان 2014 حركته مسيرات العودة، أو لأن إسرائيل تستغل وجود الرئيس الأميركي ترامب، شاعرة أن تلك فرصة تاريخية للذهاب نحو ما تريد تحقيقه بأقل الأثمان، لأن الوضع الذي مرت به غزة خلال العام ونصف الأخيرين، والذي دفع إلى هذه المفاوضات لم تكن الولايات المتحدة وإسرائيل بمعزل عنه، ولم يكن جيسون غرينبلات عابثاً في تصريحاته خلال الأشهر الطويلة الماضية.. فلا شيء مصادفة.


يحسب للجبهة الشعبية التي أعادت ترتيب المسألة بالمصالحة قبل التهدئة، وإن كانت المصالحة متعثرة، لكنها ليست بتلك الاستحالة وهو ما تفيده المعلومات بأن مصر أصبحت تتبنى هذا الترتيب، إذ يدور الحديث عن تهدئة مختلفة عما كان يحدث بعيد الحروب التي تشنها إسرائيل على غزة، فالحديث هذه المرة بما يشبه الفصل، وهو ما صدته مصر خلال السنوات الماضية، فقطاع غزة هو منطقة صراع بين الأمن القومي الإسرائيلي والأمن القومي المصري.. كلٌ يريد أن يدفع بقطاع غزة باتجاه الآخر، وأن يلقي بالقطاع في حجر الآخر، وكان واضحاً أن مصر لم تمارس ضغطاً على الفصائل الأسبوع الماضي للإسراع بالتهدئة، بل أرسلت وزير مخابراتها لاستطلاع موقف المقاطعة هذا بعد أن كانت قد سهلت وصول وفد من حركة "حماس" من الخارج برئاسة الشيخ صالح العاروري للمصادقة على التهدئة.


فهل اختلفت حسابات الجميع أمام الهدوء الذي تشهده أو يمكن توصيفه بالصخب الذي لم ينتج شيئاً حتى الآن؟ ليبقى السؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟ أغلب الظن أن الحسابات الهادئة التي تجري الآن من قبل الجميع والتي تجد تعبيراتها لدى جميع الأطراف المشاركة أحدثت نوعاً من تهدئة التهدئة، إذا جاز القول، ولكن بشكل مؤقت، حيث يمكن القول: إن الأطراف بدأت بعملية مبادرة جديدة قد تفضي إلى تهدئة، ولكن ليست تلك التي كانت قد وضعت على طاولتي مكتب "حماس" السياسي بداية الشهر والكابينيت الإسرائيلي الذي عطل المصادقة عليها، وقد تكون أقرب لتهدئة ليست بنفس النسخة إذا ما أصرت الأطراف على وضع شروطها الجديدة.


ولكن ماذا عن المصالحة التي أصبحت دولاباً في عربة التهدئة؟ وهنا يمكن التكهن بأننا قد نكون أمام حزمة واحدة: إما تهدئة ومصالحة، وإما تهدئة ولا مصالحة، ويمكن القول أيضاً: إن إسرائيل تريد تهدئة بعيداً عما نسمعه من أصوات تصدر من تل أبيب، لكن الحكومة والجيش يدفعان باتجاهها وهؤلاء أصحاب القرار.. إسرائيل تريد تهدئة تتلوها مصالحة تسهل نقل السلطة بعد ذلك إلى غزة لتفريغ الضفة من المستوى السياسي الفلسطيني، لكن الأطراف الفلسطينية ومعها القاهرة أصبحت تريد مصالحة قبل التهدئة كي لا تقع في الفخ الإسرائيلي، أو لتكون التهدئة جزءاً من الإجماع وتحت مظلة المؤسسة حتى لا يتم تقرير مصير غزة بمعزل عن باقي المناطق.


ليس من المبالغة القول: إن التهدئة في غزة مطلب عام، سواء لجهة الخشية من عدوان تكرر ثلاث مرات بكل كوابيسه من هدم وفقدان أعزاء، أو لجهة الرغبة بحياة كريمة فقدتها الناس في هذه المنطقة بعد أن وقعوا بين المطرقة والسنديان، حيث مسامير الكون كلها تنهال على رؤوسهم وأجسادهم فمزقتهم بلا رحمة وبلا أي تعاطف.


لقد تعب الغزيون من العنف ومن الحروب ومن الصدامات الداخلية، وكل ما يريدونه هو السكينة والحياة الكريمة... بعد هذه الرحلة في ذلك النفق الطويل تولدت لديهم قناعات أقرب للسلام منها للصدام.. فقط يريدون مصالحة تؤمن لهم إعادة انتخاب نظامهم السياسي ليدير شؤون حياتهم التي تحولت إلى جحيم في العقد الأخير. على "حماس" أن تدرك أن الأفق أكثر انسداداً مما تعتقد، وأن تجربتها قد فشلت. وعلى "فتح" أن تدرك أن المصالحة أكثر من ممكنة إذا توفرت متطلباتها وتنازلاتها. وكفى هذا العبث الذي لم يتوقف عن القفز المغمس بالدم بين التهدئة والحرب والمصالحة... دخان وأبخرة بلا شيء... هذا عبث...!!!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد