ليس صدفة أن تحتل التظاهرة الكبرى التي قامت بها الجماهير الفلسطينية في إسرائيل ضد قانون القومية العنصري، مساء يوم السبت الماضي، عناوين وسائل الإعلام الإسرائيلية بسبب حجمها الكبير ومشاركة عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين وأيضاً اليهود الذين شعروا بخطر هذا القانون على طبيعة ومكانة دولتهم، ولكن الغريب هو التركيز بصورة أساسية على رفع العلم الفلسطيني، فكان هو الحدث الأبرز في التظاهرة، وجرى إظهار المسألة من قبل أطراف اليمين الإسرائيلي كمبرر جيد لسن القانون على اعتبار أن الفلسطينيين الذين يتمسكون بقوميتهم يرفضون كل رموز الدولة اليهودية ويريدون حق العودة ويرغبون في دولة ثنائية القومية.


وقد حاول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الاستفادة شخصياً من رفع العلم الفلسطيني، وقال في تغريدة له على موقع «فيس بوك» إنه «لا دليل أفضل من هذا على حيوية القانون» وإنهم سيواصلون رفع علم إسرائيل باعتزاز وإنشاد «هاتكفا» (النشيد الوطني الإسرائيلي) بفخر كبير»، كما أصبح هذا الموضوع مثار تعليقات لوزراء الحكومة المتطرفين قبل وفي بداية اجتماع الحكومة. ولحقت بالركب وسائل الإعلام التي أظهر بعض افتتاحياتها قضية رفع العلم باعتبارها جوهر المسألة في إطار دفاعها عن القانون. وفي المقابل هناك صحافيون وكتاب قلائل انتقدوا ظاهرة التركيز على رفع العلم واعتبروها مسألة طبيعية حتى لو كانت خاطئة بالنظر إلى الأعلام التي ترفع في تل أبيب في مناسبات عديدة، وأن المهم هو رفض هذا القانون المجحف والظالم.


ربما لم يكن الفلسطينيون المشاركون في التظاهرة بحاجة لرفع العلم الفلسطيني لإثبات انتمائهم للشعب الفلسطيني، فهذه قضية مفروغ منها، خاصة وأن التظاهرة هي بالأساس لرفض ما يمس حقوق المواطنين الفلسطينيين في دولة إسرائيل في المساواة الكاملة مع المواطنين اليهود، وأنها موجهة للرأي العام الإسرائيلي أساساً لتشكيل جبهة عريضة من اليهود والفلسطينيين ضد القانون لإلغائه أو إجراء تعديلات جوهرية عليه تبطل طابعه العنصري الذي يؤكد فقط على حق اليهود دون غيرهم في تقرير المصير في دولة إسرائيل، ولا ينص لا على مساواة ولا حتى على الديمقراطية التي كانت في قانون تعريف إسرائيل السابق باعتبارها دولة «يهودية وديمقراطية» حتى لو لم تطبق ذلك ومارست التمييز ضد المواطنين العرب. ولكن مجرد رفع بضعة أعلام فلسطينية في التظاهرة لا ينبغي أن يكون هو أساس التغطية وتناول مدلولات التظاهرة الضخمة والمثيرة للاهتمام.


وهناك ملاحظات أخرى حول التظاهرة منها على سبيل المثال عدم خروج الجماهير الفلسطينية بأعداد أكبر من تلك المشاركة حتى لو وصلت إلى عشرات الألوف، وربما هذا ينبع من عدم قدرة الأحزاب السياسية العربية على التجنيد لإخراج أعداد أكبر، والنقطة الثانية هي بعض الهتافات التي أسمعت في التظاهرة والتي تثير حفيظة اليهود المتضامنين مع الفلسطينيين أو القلقين على مستقبل دولتهم. غير أن جميع الملاحظات لا تقلل من حجم الحدث ولا من إمكانية البناء عليه لتفعيل الحركة الشعبية التي ينبغي أن تضم الفلسطينيين واليهود المعتدلين للكفاح ضد اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل والذي يأخذها إلى صراع أبدي مع الشعب الفلسطيني، ويشطب فرص السلام العادل والشامل، ويحول إسرائيل إلى دولة أكثر عنصرية وتطرفاً من أي وقت مضى.


ولا شك أن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية قطاع غزة يمكنه أن يساهم في الضغط على الحكومة الإسرائيلية عبر استخدام وسائل الضغط الدولية وخاصة العودة مجدداً إلى الأمم المتحدة وإعادة اتخاذ قرارات ضد العنصرية الإسرائيلية الأكثر تطرفاً ووضوحاً من أي وقت مضى، فمثل هذا النظام ينبغي أن يعامل مثل نظام جنوب أفريقيا العنصري البائد الذي كان يمنح الحقوق للبيض ويمارس الأبارتهايد ضد المواطنين السود الذين كانوا يشكلون الأغلبية في الدولة. وإسرائيل اليوم تمارس نفس الشيء ضد الأقلية الفلسطينية فيها وتحرمها من حقوق المساواة ومن قدرتها على الحفاظ على هويتها وثقافتها القومية والدينية. والمنطق في هذا الشأن يقول إنه يجب أن توضع شروط على عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، وإيلاء أهمية لاحترامها للقانون الدولي والأعراف التي بنيت عليها شرعة الأمم. وفي هذا السياق لا يعقل أن تنتمي دولة للعالم المتحضر والمتمدن وتدعي أنها جزء منه وهي تمارس الاحتلال والقمع ضد شعب آخر حتى لو كانت في قمة الديمقراطية، فما بالنا وهي دولة تمارس التمييز العنصري ضد مواطنيها.


إسرائيل اليوم ذاهبة إلى دولة قومية-دينية متطرفة تقمع ليس فقط المواطنين غير اليهود بل ستكون ضد اليهود الذين لا يتبنون الأفكار والمواقف المتشددة للفئة الحاكمة، وقد بدأت بالفعل عمليات تطهير في جهاز القضاء لإقصاء كل القضاة المعتدلين والموضوعيين واستبدالهم بقضاة ينتمون للتيار القومي – الديني المتطرف، وهذا ينطبق على الإعلام، ولاحقاً سيكون هذا حال الجيش الذي بدأت تتغير فيه النخبة القائدة والتي يشكل المنتمون منها للتيار الديني القومي، ما يزيد على الثلث. وهذا المسار سيكون على المدى البعيد نهايةً للفكر الصهيوني التقليدي الذي بذل جهداً كبيراً لإبراز محاسنه وإخفاء عيوبه، ونهايةً للدولة اليهودية، حيث ستفقد  الأغلبية وستفقد الديمقراطية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد